وكفاحه مع مرض حثل العضلات
نبيل محمد رضا
إعداد: حسن فضل
كان يخطو بخطواته في الحياة بكل ثبات، ويسير مستندًا لخارطة طريق أحلامه التي ليس لها حدود. يمارس كل طقوس الحياة دون عراقيل، فقد أكمل دراسته المدرسية، وتخرج من الجامعة، والتحق بالعمل، وطموحه يتضخم في كل مرحلة، ولكن فجأة، وعلى غفلة، تسلل إليه مرض وراثي نادر، وهو الفساد العضلي الطرفي أو حثل عضلات حزام الطرف (Limb girdle muscular dystrophy)، مرض جعله مقعدًا، وأسير الكرسي المتحرك. مرض عطل كل حياته العادية.
نبيل محمد رضا أيقونة للتحدي والصبر، ولا يتقن أبجديات اليأس. عاش حياته متسلحًا بالأمل رغم قسوة الحياة، وبطش المرض، والمستقبل الغامض. كان يقتنص بقع الضوء التائهة في زحمة الظلام المتوحش، وكلما أغلق باب أمامه، فتح بابا آخر.
«صحتنا في البلاد» التقت نبيل ليروي قصته معاناته ونضاله، فما زال يكافح متمردًا للوصول للعلاج.
الفترة الذهبية وحياة بلا عراقيل
قضى نبيل سنينا من عمره حياة طبيعية بكل هدوء وطمأنينة، فطفولته عاشها كأي طفل، طفولة تغمرها الضحكات العابرة والشقاوة البريئة. كانت خطواته تملأ الطرقات، حيث يلهو ويلعب مع أصدقائه بكل سعادة وأمان، فلم يكن هناك ما يعكر صفو حياته. كان يمارس كل طقوس الحياة دون عراقيل، فالتحق بالمدرسة وأكمل دراسته حتى تخرج، ودخل الجامعة. كان يمارس هوايته كرة القدم مع شباب الحي والنادي وحتى بداية الجامعة. فترة يمكن أن نطلق عليها الفترة الذهبية في حياة نبيل.
التشخيص بمرض "شاركو ماري توث"
هذا الأنس والاستقرار لم يستمر، فبعد سنته الأولى في الجامعة بدأت عنده المشكلات تتوالى وتتطور، فقد كان يشعر دائمًا بالخمول والتعب مع ألم في العضلات عندما يمارس أي جهد. وحين لم يجد حلا للمشكلة سافر به والده إلى الهند سنة 1981، وأجرى فحوصات وتم تشخيص حالته على أنه يعاني من مرض "شاركو ماري توث"، وهو مجموعة من الاضطرابات الوراثية التي تسبب تلف الأعصاب، ويصيب هذا التلف في الغالب الذراعين والساقين (الأعصاب المحيطية). ويطلق على هذا المرض أيضًا اسم الاعتلال العصبي الوراثي في الأعصاب الحركية والحسية.
وعاد من الهند للبحرين، وقرر أن يتناسى المرض ويعيش حياته كما هي، فأكمل الجامعة والتحق بالعمل وتزوج.
البحث عن علاج وعملية في القدم تزيد الوضع سوءًا
بعد مرور ثلاث سنوات كان الوضع يتطور بالتدريج، كان التعب يجتاحه، فبدأ البحث عن حل آخر لمشكلته، وبعث تقاريره لألمانيا، ثم سافر في العام 1985، ولكن لم يعرفوا الحالة، وكان تشخيصهم كتشخيص الهند، ولكن أخبروه أن قدمه بها ميلان وانحراف في العضلات، ويحتاج لإجراء عملية تعديل حتى ينتظم في المشي، فقد كانت قدمه تتعرض للالتواء عند المشي.
عاد للبحرين بنفسٍ لا تعرف اليأس، فواصل البحث عن علاج، ونفذ نصيحة الأطباء في ألمانيا، وأجرى العملية المطلوبة في المستشفى العسكري، حيث تم وضع دعامات للتثبيت؛ ولكن لم يستفد من العملية إطلاقًا، وحالته ساءت كثيرًا، فتجبير قدمه فرض عليه عدم الحركة، فبدأت تضعف العضلات والأمور تشتد سوءًا، وزاد الضمور، ففي هذه الحالات كلما جلس أكثر دون حركة تزداد سوءًا. كانت العملية سلبية، ولم ينل منه اليأس، وأصدقاؤه كانوا يدعمونه ويساندونه.
التشخيص في لبنان بـ (حثل العضلات)
في سنة 2002 ذهب إلى لبنان للعلاج، وهناك نصحوه بطبيب في الجامعة الأميركية ببيروت قد يساعد في علاج هذه الحالات ويمنع التطور. وهناك تم إجراء الفحوصات وأخذ عينة من العضل، واكتشفوا أنه يعاني من ضمور العضلات «فساد العضلات الطرفي» أو «حثل عضلات حزام الطرف» (Limb girdle muscular dystrophy) وهو مرض وراثي. فكان هذا هو التشخيص الصحيح لحالته بعد رحلة طويلة. وصفوا له بعض الأدوية كالستيرويد لتقوية العضلات، وقد استفاد منها فاستطاع المشي والوقوف ولكن في ذات الوقت كانت هناك مضاعفات كانتفاخ الجسم، فطلب الطبيب إيقافه لأنه سيكون خطرا على حياته، فأوقف علاج لبنان.
المرض يتوحش ولا يوجد علاج
كان يقاوم الظروف ويحاول أن يمارس حياته بشكل طبيعي ويتجاهل المشكلة. لكن المرض يزداد وحشية ووصل لمرحلة الضعف في الأيادي والأكتاف، فعرضوا عليه في العمل التقاعد بعد أن لاحظوا حالة الضعف عنده، فقد كان يستعمل العكاز في تحركاته وكان عمره 39 سنة وزوجته اضطرت للتقاعد أيضًا لتلازمه. منذ تشخيص المرض ونبيل يواصل البحث عن طريق للخلاص والعلاج، فواصل البحث في الخارج، حيث ذهب لفرنسا سنة 2009، وأكدوا الحالة والتشخيص، وكانوا صريحين بقولهم إنه لا يوجد علاج لهذا النوع من الحالات. لكن نبيل لم يستسلم وعاد للبحرين وواصل البحث وذهب إلى التشيك للعلاج الطبيعي حتى لا يعطي للعضلات فرصة للضعف والتدهور. وسافر إلى ألمانيا لعلاج الخلايا الجذعية، ولكن كانت العملية فاشلة والاستفادة كانت قليلة جدا وعادت الحالة كما كانت.
الكرسي المتحرك... الصديق الجديد
منذ أن بدأت أعراض المرض، ونبيل يقاوم متحديا ظروفه القاهرة وجيش الألم الذي يجتاحه، ويحاول أن يستمر في حياته رغم المرض. فكان يعتمد على العكاز في تنقلاته، ولكن هذا لا يخلوا من الخطورة، فإذا تعرض لإعاقة أو تعثر يسقط مباشرة، فإنه يصاب ويحتاج حينها لمساعدة للنهوض. وحدثت معه حوادث وقوع عدة، وفي إحداها وقع في المنزل وحدث كسر في القدم وتم وضع الحديد بعملية جراحية لكي يستطيع الوقوف، وتمكن من المشي بعد العملية، ولكن بصعوبة. كان يسوق السيارة، ولكن بحذر إلى أن وصل لمرحة كانت أياديه تضعف قوتها، فقرر التوقف عن السياقة حفاظًا على حياته وحياة الآخرين. وكان يقاوم حتى ضعفت قواه حتى أصبح حبيس الكرسي المتحرك الكهربائي واعتمد عليه في تنقلاته.
الكرسي المتحرك الكهربائي أصبح قدماه اللتين يمشي بهما، واعتماده أصبح كليًا عليه في كل أمور الحياة كزيارة الأهل والأصدقاء والسوق لشراء الأغراض، ولا يستطيع الاستغناء عنه، فهو وسيلة سخرها الله له كما يقول دائمًا.
الكرسي المتحرك الكهربائي لازمه منذ سبع سنوات، وأصبح صديقه ويمنحه جزءا من الحرية، فوجوده في البيت يعني أنه سيكون مقعدا ويحتاج لمساعدة في أبسط الأمور كارتداء الملابس، لذلك يفضل الخروج لينطلق بحرية، وهذا لا يخلو من عراقيل، فشوارع البحرين والأرصفة وكذلك مداخل بعض الأبنية غير مهيئة للكرسي المتحرك. ويضطر ليسير مع السيارات في الشارع مع استعمال الإنارة في الكرسي ليلًا. ولكن الوضع مختلف عندما يذهب لأوروبا حيث يجد الراحة النفسية هناك، فكل الوسائل متوافرة والشوارع مهيأة، فهناك ممر خاص للكرسي المتحرك وكذلك بالأسواق والأبنية.
مواجهة صعوبة الحياة مع المرض بالتعايش والإيمان الراسخ بالله
يختتم حديثه نبيل لصحتنا بالقول «إن الحياة كلها صعبة، ولكن نحمد الله، فالإنسان ينتقل من مرحلة لأخرى. أن تكون قادر على المشي، وتجري وتذهب لأي مكان، ثم تصل لمرحلة تحتاج فيها للعصا، إلى أن تجد نفسك مقعدا، فهذا أمر صعب. ولكن أنا والحمد لله إيماني بالله قوي، ومؤمن بالله أن هذه هدية من رب العالمين، ويجب أن أتقبلها وأتعايش معها». ويضيف بكل عنفوان أن المرض لم يأخذ منه شيء ويقول «صحيح أن هناك سلبيات وإيجابيات، فالسلبيات أن تشعر بضعف وتعب وضجر وملل؛ لكنها كلها أمور طبيعية، أما الإيجابيات، فهي حب الناس وقربهم، فجميعهم معي ويساعدوني، فنحن مجتمع واع ويتفهم». وفي لحظة عرفان يتحدث بمشاعر صادقة، فيقول»زوجتي كان لها دور أساس في حياتي، فهي التي كانت تهتم بأموري من الألف إلى الياء. فلولاها بعد الله سبحانه وتعالى لا أعرف كيف سيكون مصيري». ويضيف «بناتي هم ثمرة حياتي وسندي الآخر، فهم يحاولون مساعدتي قدر الإمكان حسب ظروفهم الدراسية والعلمية».
ورسالته لأقرانه من المرضى «لا تيأسوا فالله خلقنا لكي نعيش حياتنا نعبده ونشكره على أي شيء سواء كان سلبيا أو إيجابيا، فهذه إرادة الله والإنسان يواصل حياته الطبيعية».
أمل يقهر المستحيل
ما زال نبيل يواصل البحث عن العلاج، متمردًا على وحشية المرض، يناضل وحيدًا شاهرًا سيف التحدي في وجه كل الظروف وجيش الألم الذي جنده هذا المرض لينال من عزيمته. هو ليس وحده في عائلته، فأخته الكبرى واثنان من إخوانه يعانون من ذات المشكلة. هو يناضل من أجلهم جميعًا، كل الأبواب موصدة أمامه. وكلما فتح بابًا يعود خائبًا، ولكنه لا ينكسر، ولا يتسرب اليأس لداخله. متسلحًا بالأمل، فلا يعرف المستحيل.
نبيل مثال لأصحاب الأمراض النادرة الذين يحتاجون للدعم والاهتمام، ويؤكد ضرورة وجود منظمات تهتم بالأمراض النادرة كما هو وجود في الولايات المتحدة وأوروبا، ونتمنى أن تحظى حالته النادرة بالاهتمام.