العدد 2232
الإثنين 24 نوفمبر 2014
banner
النائب المستقل بين المبادرة الذاتية والعمل الجماعي د. نعمان الموسوي
د. نعمان الموسوي
الإثنين 24 نوفمبر 2014

إن فكرة استقلال الذات المفكرة والشخص الأخلاقي، أي الشخص الذي يتصرف بضميرٍ حيّ وفق مبادئ المجتمع وعاداته وتقاليده، لم تتحقق في الفكر الإنساني إلا في وقتٍ متأخرٍ، فالفرد يعتقد أنه امبراطور داخل امبراطورية، فيضع نفسه في مقابل العالم وفي تعارضٍ مع الآخرين، بحيث يتصوّر نفسه كبدايةٍ مطلقةٍ، وعلى العكس يدرك الشخص الأخلاقي أنه لا يوجد إلا بالمشاركة، فيقبل الوجود النسبي، ويتخلى نهائياً عن الاستكفاء الوهمي. إنه ينفتح بذلك على الكون، ويستقبل الغير. لقد فهم الشخص الأخلاقي أن الغنى الحقيقي لا يوجد في التحيّز والتملك المنغلق، ولكن يوجد في وجودٍ يكتمل بقدر ما يعطي ويمنح. إن استقلال الشخص هو مشاركة الغير، فالشخص الذي يتحرك بنوازع الأخلاق والضمير لا تتحقق ذاته بالعزلة أو التعارض مع الآخرين، بل بفضل أشكال التضامن والتكافل الأولى بين الناس والمجتمعات البشرية.
وينسحب هذا القول على نائب الشعب، حيث إنه ملتزم بتنفيذ ثلاث مهمّات متكاملة، وهي تمثيل الشعب في البرلمان، وتشريع القوانين واللوائح والأحكام الإدارية للمجتمع وفقاً للدستور والقانون، والرقابة على أداء المؤسّسة التنفيذية “الحكومة” ومساءلتها. غير أن القيام بهذه المهمّات يتطلب التشاور والتنسيق مع بقية أعضاء البرلمان ضمن تكتّلات سياسية يتم تشكيلها على أساسٍ حزبيٍ “تضم الأعضاء المنتمين إلى الحزب نفسه” أو غير حزبي “الأعضاء المستقلين الذين لا يتبنّون توجّهات حزبية أو فكرية محدّدة”، أو على أسسٍ أخرى، كأن يمثِّل التكتّل أقليةً معينةً في المجتمع أو جماعات معينة “رجال دين، رجال أعمال، بيئيون، الخ”.
إن مسألة استقلالية النائب تحتاج إلى مزيدٍ من التمحيص، فالاستقلالية الفكرية تعني عدم التزام النائب باعتناق الفكر الذي يروِّج له الحزب (التكتل النيابي) المعني، مع أنه قد يجد نفسه مضطراً للدفاع عن مشروعٍ أو قانونٍ تقدّمت به كتلة “حزبية” معينة لا ينمتي لها أصلاً، أو مساندة رأيها بدواع إنسانية أو اجتماعية صرفة. لكنه في الأساس يتبنّى بشكلٍ عامٍ مثلا وقيما إنسانية سامية يتفق على أهميتها وضرورتها جميع الناس بلا استثناء، كالحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة والتراحم الاجتماعي، وغيرها، بل ويدافع عنها تحت قبة البرلمان.
أما الاستقلالية الفئوية (المذهبية) فتتطلب من النائب ألا يتعصّب لرأي الطائفة (الفئة) التي ينتمي إليها بحكم الأصل أو الإقامة، ويساند موقفها في الحق والباطل، بل يقف على الحياد مع كل طوائف وفئات المجتمع، فلا يتوان عن نصرة فئة يعتقد أن حقوقها قد تتعرض للسلب، ولا يتخندق مع فئة أو طائفة مستبدة لأنه احد أتباعها، ومن ثم فإن نصرتها “واجب وحق عليه”.
إن نائب البرلمان الكفء والقدير هو الذي يستطيع الموازنة بين الاستقلالية الفكرية والمذهبية من جهةٍ، والعمل الجماعي مع بقية زملائه النوّاب من أجل إقرار تشريعات تخدم المواطنين، وترقى بالممارسة البرلمانية إلى مستويات نوعية أعلى، من جهةٍ أخرى. وهذا بطبيعة الحال لن يتم إلاّ بالتعاون الوثيق والمدروس مع الكتل البرلمانية المختلفة، الأمر الذي يتطلب من النواب المستقلين أنفسهم، ممّن تنطبق عليهم المعايير المذكورة، تشكيل تكتّلهم النيابي الخاص بهم، والمعبِّر عن توجهاتهم الأساسية، والمتسق أساساً مع برامجهم وخططهم التشريعية والرقابية.
فبقدر ما يحتاج النائب إلى التفكير والفعل المستقل، فإنه بحاجة أيضاً إلى من يتحاور ويتشاور معه من خلال “التفكير بصوتٍ عالٍ”، ويشاطره تطلعاته وطموحاته، ومن خلال الجمع بين هاتين الصفتين، أي المبادرة الذاتية والعمل الجماعي، تتحقق استقلاليته الفعلية.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية