العدد 1216
الأحد 12 فبراير 2012
banner
العراق .. من الحرب الظالمة إلى الفوضى الشاملة (2)
ستة على ستة
الأحد 12 فبراير 2012

حديثنا اليوم عن العامل الرئيس الأول الذي أجبر أميركا على الانسحاب من العراق  وهو ارتفاع فاتورة حرب العراق على خلاف الحسابات والتقديرات الأمريكية  التي قدرت تلك التكلفة بنحو 75 مليار دولار في مراحلها الأولى، وهو ما أغرى واشنطن بشن هذه الحرب ظنًا منها أنها ستكون بمثابة “نزهة” لجنودها واختبارًا لأسحلتها وعتادها في ظل الفارق الشاسع بين بلد “غارق” في حروب وحصار وآخر هو الأقوى بين دول العالم أجمع .
 لم يدر بخلد أحد أن مجموعات من المقاومة الوطنية العراقية يمكن أن تسجل انتصارات وتلحق بالعدو الأمريكي وحلفائه وأعوانه العراقيين الذين باعوا دولتهم اتباعًا لهوى ورغبة في سلطة زائلة تحققت لهم بعد أن كانوا منفيون لكنهم عادوا مع دبابات الاحتلال الأمريكي وكانوا دليله في تخريب وتفتيت البلاد.
 الأرقام كثيرة والإحصائيات متعددة حول الخسائر الأمريكية البشرية والاقتصادية في العراق وكلها على تباينها واختلافها تؤكد فداحة هذه الخسائر وأنها غير مسبوقة على الإطلاق ، ويكفينا في هذا السياق الإشارة إلى بعضها:
 - في أغسطس عام 2005 وصل عدد الجرحي والمعاقين من الجنود والمجندات بإصابات خطيرة خرجوا على إثرها من الخدمة نتيجة الحرب في العراق 48733 جندياً، إلي جانب 12422 جندياً أصيبوا بإعاقات نفسية خطيرة وفي حالة اضطراب عقلي، وذلك وفقًا لتقرير أصدره مركز قدامى المحاربين الأمريكيين في مدينة مورجنتاو .
 - قدر البعض عدد القتلى في صفوف القوات الأمريكية حتى عام 2009  بأكثر من ( 15000) قتيل بينما بلغ عدد الجرحى للفترة ذاتها أكثر من (27000) جريح ، والبعض الأخر قدر القتلى بنحو (50000 ألف) عسكري أمريكي.
- طبقًا للاقتصادي الأمريكي البارز جوزيف ستيغليتز فإن الولايات المتحدة كان بإمكانها أن تبني بكلفة الحرب الضائعة ثمانية ملايين وحدة سكنية، وتوظيف 15 مليون معلم، وتعليم 120 مليون طفل، ورعاية 530 مليون طفل صحيا لمدة سنة، ومساعدة43 مليون طالب جامعي لمدة أربع سنوات.
 -في عام 2003 وقبل غزو العراق كان العجز في الميزانية الأمريكية حوالي 300 مليار دولار ارتفع في عام 2004  الى 600 مليار دولار وفي عام 2005 إلى أكثر من 700 مليار نتيجة الحرب في العراق .
 الأرقام لا تعنينا كثيرًا ولكن ما يهمنا هو دلالاتها وتأثيراتها ولماذا لم تستطع واشنطن تحملها وآثرت الانسحاب من العراق تجنبًا للمزيد منها، وكيف تمكنت فصائل مقاومة عراقية مختلفة من إنزال هذه الخسائر الفادحة بالعدو الأمريكي القوي وحلفائه؟
 وبرأيي أن العامل الفارق والذي أحدث هذا التحول الاستراتيجي المهم في القضية العراقية والذي قلل كثيرًا بل ألغى التفاوت بين القوتين هو الإيمان بالقضية وعدالتها ومشروعيتها فقد كان الأمر صراعًا بين الحق ممثلاً في المقاومة العراقية والباطل مجسدًا في واشنطن ومؤيديها ومعاونيها ، وهو صراع محسوم لصالح الحق مهما طال في الزمن .
الذي يؤمن بقضيته يكون مستعدًا للتضحية بالغالي والنفيس في سبيلها وموقنًا بالنصر على الأعداء ، وقد كان هذا حال المقاومة الوطنية العراقية .
بينما أميركا فقد اعتادت على تحميل تكاليف حروبها ومغامراتها العسكرية الخارجية على ما تصفهم بالحلفاء بعد إيهامهم بأن تلك الحروب والمغامرات شرعية وأخلاقية وقانونية ، فتجني هي ثمارها وتتفادى أعبائها وتكاليفها، وكان نجاحها في ذلك يغريها بتكرار التجربة مرة أخرى ولأسباب أوهن .
حالة العراق المتردية ربما جعلت واشنطن لا تلتفت كثيرًا لتكلفة الحرب ، ولم تضيع وقتًا طويلاً في إقناع “الحلفاء” بتحمل هذه التكلفة لاعتقادها بمحدودية هذه التكلفة ولتوقعاتها الكثيرة وطموحاتها المتنوعة من احتلال بلد كالعراق بخيراته وثرواته وموقعه ونفطه ، فأرادت الاستئثار بهذا “الكنز” دون اي شريك قد ينازعها فيه بعد القضاء عليه سريعًا .
وجاءت الرياح بما لا تشتهي السفن تمامًا فشاهت الوجوه وتغيرت الحسابات رأسا على عقب بفعل شراسة وقوة المقاومة الوطنية العراقية فهرولت واشنطن نحو التفاوض معها والاتفاق مع أعوانها وأتباعها داخل العراق وخارجه من أجل الخروج من هذا البلد الذي تحول لمستنقع يمكن أن يبتلعها إن استمرت هي فيه .
ومن العوامل التي دفعت باتجاه الانسحاب الأمريكي من العراق انعكاس هذه التكلفة الباهظة للحرب على الداخل الأمريكي الأمر الذي  شكل استياءً شعبيًا كبيرًا ومثل ضغطًا قويًا على صانع القرار الأمريكي بعد أن تحولت هذه الحرب من مصدر للفخر كإنجاز تحقق على المستوى الخارجي كما حدث في حرب تحرير الكويت عام 1991   إلى مدعاة للخزي والعار في ظل عدم عدالتها ومشروعيتها وبسبب الخسائر البشرية والمادية والاقتصادية المرتفعة التي أثرت سلبًا على حياة المواطن الأمريكي ومعيشته وانعكست أيضًا على الاقتصاد الامريكي وعلى سمعة الجيش الأمريكي بفعل الحماقات والجرائم اللاأخلاقية التي ارتكبها أفراده في العراق والناجمة عن تردي المستوي الأخلاقي للملتحقين بالجيش الأمريكي واعتماده على المرتزقة بعد إحجام الكثيرين عن الانضمام للجيش لما رأوه من قتلى وجرحى ومعاقين في حرب غير مبررة، وهي كلها عوامل قد تؤدي بالنهاية إلى خسارة الرئيس الأمريكي “أوباما” في انتخابات الرئاسة المقبلة فما كان منه إلا أن أصر على الانسحاب من العراق لينزع من منافسيه المحتملين ورقة قد تطيح به خارج السباق نحو البيت الأبيض .
 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية