العدد 2386
الإثنين 27 أبريل 2015
banner
لا تدعوها “خربانة”... لا لغرغرينا الوطن غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الإثنين 27 أبريل 2015

تكالبت دعوات على وسائل التواصل الاجتماعي خلال الأيام القليلة الماضية تحت وسم “#خلوها-خربانة”، في إشارة إلى القرى والمناطق التي لا تزال تشهد توترات أمنية ومواجهات، وما ينتج عن هذه الأعمال من آثار لحرق الإطارات، أو حرق خزانات المياه، وسد الطرقات بما توفر من مخلفات بناء أو جذوع الأشجار، والكثير من المظاهر، التي أقل ما يقال فيها، إنها لا تتناسب وعيش الأهالي في القرن الحادي والعشرين، ناهيك عن الطبقات التي أثقلت بها الجدران جراء الكتابة المتكررة حتى ليخال للمرء أنه لن ينفع مع هذه الجدران إلا الهدم حتى يعاد بناؤها ذات يوم من غير هذا الإرث الكبير من العبارات التي تعبّر عن مرحلة قلقة من وطننا.
#خلوها-خربانة، دعوة جديدة قديمة، جديدة في وقتها هذا، ولكن سبق لوزير الأشغال السابق أن أعلن ما يشبه يأس وزارته لكثرة ما بذلت من محاولات إصلاح ما يجري تخريبه مرة تلو المرة، فتصبح منشآت بعض المناطق ومرافقها، أشبه ما تكون بـ “الثقب الأسود” الذي يبتلع الأموال المخصصة لتطوير المناطق، فتتوقف عملية التنمية والتطوير، وتتحول إلى إصلاح ما تم تكسيره وتخريبه ونهبه وحرقه والعبث به. ولكن سرعان ما عادت العجلة للدوران من بعد هذا التصريح لأنه ليس من الصالح العام أن تبقى المناطق مخرَّبة مدداً طويلة.
الذين تواصلوا عبر وسم #خلوها-خربانة، وبصرف النظر عن بعض العبارات والكلمات التي يمكن اعتبارها نابية، طالبوا بأن يُغرَّم من يثبت عليه التحقيق أنه شارك في التكسير والتحريق، وأن يدفع ولي أمره (إن كان قاصراً) تعويضاً عما أتلفه ابنه أو من هو ضمن ولايته، وأن يشدد النواب القوانين المعاقبة ضد الذين يعبثون ويخرّبون، يدعو البعض أن تبقى الأوضاع على ما تركته الساحات من أوساخ ومزابل وحرائق، وأن يبقى الناس في الحر إن جرى العبث في محطات لتوزيع الكهرباء، وأن يبقوا في الظلام إن جرى اقتلاع بعض أعمدة الإنارة في الطريق، وأن يعيشوا التخبط المروري إن جرى إعطاب الإشارات المرورية، وذلك حتى يلجم الأهالي أبناءهم، إن كانوا يريدون العيش من دون خرائب.
الحديث هنا له جانبان: الأول هو الرضا بأن يعمد البعض إلى التخريب والحرق والتكسير، وهو أمر مستغرب منه حقيقة، فهذه التي تسمى “بطولات” وتطلب لها “اللايكات” ما هي إلا أعمال طفولية تستنزف المقدرّات، هذه ليست لعبة وتسلية، إنها أمور غاية في الجدية مع محصول شحيح الفوائد، هذا غير التعرض لأخطار “اللعب بالنار” ذاتياً من خلال المواجهات، والآثار الكريهة التي تترك في مكان العبث، وكميات الدخان الأسود الخانق.. هذه الطاقة الشبابية التي يجب أن تنصرف إلى ما هو راقٍ بكل المقاييس صار يزيَّن لها دحرجة إطارات مشبعة بالنفط.. والتصوير بشكل استعراضي قفزاً من وراء سواتر الدخان، وهي مسألة لا تعدو مضيعة لكل شيء، وبالأخص الأعمار والأرواح إذا ما تعرّضت لسخونة المواجهة.
والجانب الآخر، هو دعوة البعض، والحمد لله على قلتهم، بأن يبقى الخراب خراباً، والسوء سوءاً، والسوءة سوءة، وهذا أيضاً مما يُستغرب منه. لأن هذا يعني أننا فعلاً نعيش في أكثر من وطن واحد على أرض واحدة. أليس الوطن جسداً؟ هل من السهل على الجسد أن يشيح بوجهه عن عضو منه لأنه ضعيف أو موجوع أو هاجمته الأدواء؟ أليس من المرجَّح أن يسري العطب بشراسة وقوة على المناطق الصحيحة من الجسم ويسعى لأن تكون مثله مادام الصحيح عاجزاً عن أن يجعل السقيم مثله؟
إننا – حقيقة – بحاجة ماسّة لإعادة رسم معنى مصطلح “وطن”، وتعريفه من جديد، فالمصطلح الذي نما عليه جيل من هم في الأربعينات وما فوق، صار مختلفاً جداً عن ما يعرفه جيل الشباب لمعنى بلد واحد، وشعب واحد، وإقليم واحد، ونَفَس واحد، وهمٍّ واحد، وعدوٍّ واحد، ومستقبل واحد، وتطلع وطني واحد. فلا يمكن أن يخطئ أي مراقب أنه عند الملمّات لا يلبث هذا الشعب أن يولّي كل منهم ظهره للآخر: هذا ملتفت نحو “الشرق” وذاك نحو “الغرب” في اعتقاد راسخ لدى الطرفين أن الحل لن يأتي إلا من الجهة التي التفت إليها، ولو التفت المتدابرون إلى بعضهم البعض، والتقت أعينهم لعرفوا أنهم إنما يبحثون عن الحلول البعيدة بينما الحلول في أيديهم وتحت أرجلهم: هذا الترابط الذي يجمعهم ولا يبقى إلا أن يوحّدهم ويأبى أكثر الناس اتّحاداً.
لمعالجة أي موقف هناك الكثير من الطرق والاستراتيجيات والتكتيكات، وهي غالباً ما تتبع وتنبع من النفسيات التي تؤيدها وتأتي منها، لذا، ربما تبدو جميع الحلول وجيهة وصحيحة، ولكن أكثرها صحة – من وجهة نظر شخصية – ما ينبع من قناعة ومن جذور الشخص، عودة النظافة والأناقة للمناطق الخربة اليوم لن تأتي أبداً مادام الوعي السائد إحراق الأرض وتفحيم الأجواء حتى يتحقق ما تنادي به جماعة.. وبين ترك الأمر على علاته حتى وإن استمر عقوداً حتى يرضخ الأهالي ويسلّموا تسليماً.
الموقفان مرض: إن تمادى البعض في انتهاش لحومهم، وإن تنادى البعض لتركهم وشأنهم... في الحالين لا نستحق وطناً إن بقينا أصناماً واقفين.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية