العدد 6032
الأحد 20 أبريل 2025
دولة التلاوة ومتحف عالمي
الجمعة 14 مارس 2025

يبدو أن دولة التلاوة التي أسسها جهابذة، وأصوات سماوية نادرة، قد سقطت في غفلة منا، وقد وارت الثرى ودُفنت مع أصحابها: الشيوخ محمود خليل الحصري، محمد رفعت، محمد صديق المنشاوي، عبد الباسط عبد الصمد، مصطفى إسماعيل، كامل يوسف البهتيمي، محمود علي البنا، محمود الطبلاوي، أبو العينين شعيشع، وغيرهم الكثير ممن أسسوا هذه الدولة وجعلوها ملء السمع والبصر.

يقولون: فتشوا عن كتاتيب تحفيظ القرآن الكريم، وستعرفون السبب؛ اختفاؤها، أو انزواؤها، أو فرض القيود عليها، أو إزالتها بفعل فاعل، قد ساهم في إغلاقها، وفي تركها المهنة، وفي عدم توريثها لصناعة التلاوة، قراءة القرآن الكريم، والموشحات الدينية على طريقة العظيم الشيخ النقشبندي والشيخ نصر الدين طوبار، رحمهما الله، والترتيل على طريقة إذاعة القرآن الكريم وشيخنا الحصري البديع. أولئك وهؤلاء وضعوا مصر، في أزمنتها الجميلة، على قمة الدول الإسلامية التي تصدر أصواتها القادمة من السماء، مثلما تصدر علماؤها وأدباؤها وفنونها عبر الحدود لينتشروا في كل بقاع الدنيا، كي يملؤوها نورًا ومعرفة وجمالًا.

سقوط دولة التلاوة سقوط مدوٍّ لقيمنا الدينية والروحانية في شهر رمضان الفضيل، وتراجع للدور المصري على صعيد نشر الإسلام الوسطي المعتدل، والدفاع عن مقدساتنا باستخدام قوتنا الروحانية الناعمة، وليست تلك التي تقدمها الدراما العنيفة المتعاظمة. إنه سقوط نواجهه بما يكفي من تنوير، وبما يستحق من إعادة نشر الوعي بأهمية استعادة دولة التلاوة لمكانتها الطبيعية بيننا، وأن تأخذ حقها كاملًا في الإعداد والتجهيز والتعليم والتعلم. يكفي أننا نحتضن الأزهر الشريف بكلياته وعلومه وبرامجه ومؤسساته، ويكفي أن لدينا من التاريخ القريب ما يذكرنا دائمًا بأنه كانت لدينا دولة عظمى، تعيش بين جوانحنا، اسمها دولة التلاوة. ويكفي أن أصداء هذه الدولة ما زالت ترن في آذاننا كلما هلّ علينا هلال الشهر الفضيل، فلا يفطر أيٌّ منا إلا على صوت محمد رفعت أو النقشبندي، ولا نصوم إلا عندما تهبط علينا أصواتهم من السماء، وهم معلقون برأس مئذنة عريقة من مآذن مصر الفاطمية الخديوية العريقة.

لكن، هل هناك أمل في عودة دولتنا المستقلة لتلاوة آيات من الذكر الحكيم؟ هل يمكننا إعادة حصري أو عبد الباسط أو منشاوي أو طبلاوي جديد بعد رحيل الجهابذة الأوائل؟ بالتأكيد نعم، يمكننا ذلك، فهناك من المواهب والأصوات الجميلة البديعة القادرة على قراءة القرآن الكريم وتجويده وترتيله، بشرط أن يعود لإذاعة القرآن الكريم دورها البحثي والاستكشافي في القرى والنجوع والمدن والجامعات، وبشرط أن نبدأ بما هو تحت أيدينا الآن من تراث إذاعي وتلفزيوني لا يُقدَّر بمال، وأن نعمل على إنشاء متحف عالمي يضم تسجيلات عظمائنا في دولة التلاوة عبر العصور، وأولئك الذين شجعوهم وجعلوا منهم نجومًا متلألئة في سماوات القرآن الكريم والقراءة الصحيحة له.

متحف يحكي تاريخ رموزنا في التلاوة، بالصوت والصورة والتسجيلات النظيفة، في ظل التكنولوجيا الحديثة، مع نفض الغبار عن الأسطوانات العتيقة العريقة لكبار مقرئينا، وأولئك الذين ضحوا بحياتهم من أجل أن تصل أصواتهم إلى كل بقاع الدنيا. إن شهر رمضان، الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس، يفتقر إلى أصوات جديدة مؤثرة، مؤمنة بالكلمة الحق، مستوعبة لقيمتها وكينونتها وجلالها، وإننا لفقدكِ يا دولة التلاوة لمحزونون.

هذا الموضوع من مدونات القراء
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected]
صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .