الشَّوْقِ والاشْتياقِ هما جناحان للعاشقين، والعرب عندهم الشوق يرد معناه؛ أنه نزاع النفس إلى الشيء، وحركة الهوى، أو تعلقها به. وجَمْعُ الشوق هو أشواق، ويقال كذلك شاقَني الشيء يَشُوقُني، فهو شائِقٌ، وأنا مشوقٌ، وشَوَّقَني فَتَشَوَّقْتُ، إذا هَيَّجَ شَوْقَكَ. وكلُّ هذا يحوم حول معنى واحد هو اشتياق النفس لما يستهويها ويجعلها تميل إليه، وتتعلق به، وتأمل دائما للوصول إليه أو لقائه. وفي قصيدة كتبها المتنبي لكافور الإخشيدي في دلالة الشوق استهلها؛
أُغالِبُ فيكَ الشُّوقَ وَالشَّوقُ أَغلَبُ
وَأَعجَبُ مِن ذا الهَجرِ وَالوَصلُ أَعجَبُ
والشريف الرضي له مندوحة قول في ذلك؛
وَكُنتُ أَظَنَّ الشَوقَ لِلبُعدِ وَحدَهُ
وَلَم أَدرِ أَنَّ الشَوقَ لِلبُعدِ وَالقُربِ
سُئل اللغويُّ أبو علي الدقاق ما يُفَرِّق بين الشوق والاشتياق، فيقول؛ الشوقُ يَسْكن باللِّقاء والرؤيةِ، والاشتياق لا يزول باللِّقاء. وفي هذا المعنى أورد القُشيري بيت أبي نواس حين قال؛
ما يَرجِعُ الطَّرفُ عَنها حينَ أُبصِرُها
حَتّى يَعودَ إِلَيها الطَّرفُ مُشتاقَا
ولهذا الشوق يَسْكُنُ باللقاء، والاشتياق لا يسكن به، بل يزيد ويتضاعف. ومنهم من يقول الشوق يسكن باللقاء، والاشتياق يهيج بالالتقاء. وقيل لا يعرف الاشتياق إلا العشاق. ومن سَكَن باللِّقاء هو عاشق، وسلطانه هو عشقه. لذلك العشاق يَتَألمّون بالفراق ويطلبون لذَّة التَّلاق فَهُم في حُظوظ نُفوسهم يَسْعُون، فلا منَّةٌ لمُحب على مَحبوبه، فإنَّه مع مطلوبة، ولا عنده محبوب ومرغوب سوى ما تَقَر به عَينه ويَبتهجُ.
هكذا الشوق يزول برؤية الحبيب، وإذا ورد سكن، والاشتياق لا يزول أبدا، والروح تطلب الزيادة في وصله والقرب منه، وهي مثل هبوب القلب إلى غائب يذرف دمع من شدة الشوق. يقول القُشيري؛ الشوق اهتياج القلوب إلى لقاء المحبوب، وعلى قدر المحبة يكون الشوق. وإذا لقي المحبوب إنما يكون ذلك سرورا به، من شدة الشوق.
وهناك مقام شوق ملازم لمحبة ربّ العزة والملكوت، المتنزه عن كل التشبيهات والنعوت. شوق يذهب الضلال، ويأتي بالنور، ويبدل الكدرات بالطمأنينة والسرور، وهو نور الإيمان. وكلما كان حبك للشيء كبيرا كلما كان شوقك له أكبر. ولهذا ذكر أبن قدامة المقدسي؛ الشوق ثمرة من ثمار المحبة، فإن من أحب شيئا اشتاق إليه.
ابن قيم الجوزية في كتابة طريق الهجرتين وباب السعادتين، قسم الشوق إلى ثلاث درجات:
الدرجة الأولى؛ شوق العابد إلى الجنة، ليَأمَن الخائف ويفرح الحزين، ويظفر الآمل. يعني شوق العابد إلى الجنة فيه هذه الحكم الثلاث.
الدرجة الثانية؛ شوق إلى الله عز وجل، زرعه الحبّ الذي ينبت على حافات(المنن)، فعلق قلبه بصفاته المقدسة، فاشتاق إلى معاينة لطائف كرمه، وآيات برَّه، وأعلام فضله.
الدرجة الثالثة؛ نار أضرمها صفوة المحبة، فنغصت العيش، وسلبت السلوة، ولم يكفها قرار دون اللقاء.
وهنالك اقوال أخرى تجعل للشوق ثلاث مقامات هي؛ "شوق إلى الجنة، والشوق إلى ما في الجنة من حظ، والشوق إلى الله عز وجل والنظر إلى وجهه الكريم ومحادثته وكلامه". ولهذا القلب السليم هو ذاك الذي تَشَبَّعَ بحب الله وخشيته، والشوق إليه، والقلب هو مَلِكُ الأعضاء، وجميع الجوارح جنوده، فإذا صَلُحَ صلُحتْ وانضبطت جميعها، وإذا فَسَدَ تمَرّدت وفسُدتْ هي الأخرى. وقد لُخص كلّ هذا تعريف يحيى بن معاذ حين عرف الشوق؛ أن علامته فطام الجوارح عن الشهوات.
قد يصف البعض الشوق جمرة تتوقد في القلب، وتشتاق الروح إلى لقاء خالقها وبارئها وتنتظر ذلك الانتقال من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، وهي فرحة مستبشرة ومستأنسة بجواره سبحانه وتعالى. ولذا الشوق أجلّ مقام للمؤمن الصادق إذا تحقق فيه الشوق لهَاَ عن كل شيء يُشغله عمن يشتاق إليه. وفي هذا مقام إيماني لا تشبعه حور وقصور، بل روحه معلقة بنعيم الروح كما قال تعالى ﴿ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم﴾.
وهنالك شوق يتدافع عند العاشقين عبر أحدهم عنه؛
ومن عجب أني أحن إليهم
وأسأل شوقا عنهم وهم معي
وتبكيهم عيني وهم في سوادها
ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي
أو شوق فيه شغف محبة نبي الأمة؛
ولهيب وجد هيجته روضةٌ
من أجلها حلت من الصبر القوى
بل زاد شوقي للحبيب ورامةٍ
والأبرَقَينِ وما لِمُنعرج لوى
تاللهِ ما شوقي لطيبة بعدما
زُرتُ الحبيب وقبلهُ إلاَّ سوى
امتلاك شعور فيه حب الله تعالى، والاشتياق إليه، وإلى حبيبه المصطفى ﷺ. هو هدي فقد كان محمد ﷺ يقول في دعائه: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأْلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ. ومثل هذا الشوق يعتبر منزلة من منازل السالكين إلى الله سبحانه وتعالى. فالشوق أو الاشتياق عندهم حاضر وبقوة خصوصا الاشتياق للقاء الله ومجاورة نبيه محمد ﷺ. وهو أعلى درجات الشوق.
الشوق والاشتياق خلجات تترامى في دواخلنا، وتنطق بها شفاهنا حنين أمي وأبي. بهما تهيم النفس كحال طيور مهاجرة في سماء الزمن حينما نفقد واحدا منهما. حمى الاشتياق ولوعته، ولهيب الرحيل ودمعته تستجوب عقولنا وتصبرنا، وتتحسس معها تدفق عتبات المآقي. مثلها كذلك يكون حنين الأوطان وهي تدب في أركان الأمكنة، بل وتلج ردهات الذكريات، وتسبح في ثنيات حبات الرمال تشف العقل والوجدان. هكذا تجذر فيه لهفة نفوس مثل رنة ريح في أذن الواله، أو أصوات طيور هسهستها فوق صفحة مياه هادئة. في دلالة شوق واشتياق تتذكر حضن أم بعد انقطاع فيها دموع وارتعاش. هو شوق أحرفه ثلاث قيست على مقاسها، ودواءها حمد لله على كل حال.
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |