العدد 5968
السبت 15 فبراير 2025
خربشة ومغزى.. "القوة الناعمة والقِيَم.. مدلول وأثر"
الأحد 26 يناير 2025

القوة الناعمة والقِيَم، مدلول وأثر عنوان عميق المضمون، متباعد الأطراف، كثير التفاصيل، وتنوع التأويل، ومطامح التأثير. وفي التالي إدراك ما يلزم، وإطلالة فَهِم؛

القوى الناعمة تعني القدرة على مُحَاكاة ذات الإنسان والتأثير عليه، وإقناعه بمفاهيم وممارسات غالبا ما تأخذ تدرج قبول عند المتلقي، حتى يتشبع وينقاد انجذابا وإتباعا. والقوة الناعمة كما أشار اليها جوزيف ناي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفرد في مقال له الذي يحمل الاسم ذاته (Soft Power)، هي القدرة على تحقيق الأهداف المتوخاة من خلال الجذب بدلاً من القسر أو الدفع، فهي تعتمد الإغراء والجذب بدل الإكراه والقهر. ويقابل مفهوم القوة الناعمة مفهوم القوة الصلبة وتعني القوة المشتركة السياسية والاقتصادية والعسكرية، أي القوة في صورتها الخشنة، بما في ذلك القدرة على استخدام الجزرة عن طريق الأدوات الاقتصادية، بهدف التأثير على سلوك الآخرين.

أما القِيَمُ فهي منظومة متكاملة قائمة، نواميسها وظواهرها كحال الكون قائم على نظام، وجماع المعاني اللغوية في مفاهيم القيم، هي ما تتحدد به دوافع السلوك والأخلاق والعادات الاجتماعية والمُثُل التي يرضعها الإنسان في محيطه منذ نشأته، وهي معه طوال حياته لتصبح عفوية، ويشعر معها بالرضا الذاتي واحترام المجتمع له. ويدخل كذلك في مفهوم القيم الانفعالات وردود الفعل الصادرة عن العقل، تجاه موقف معيّن متأثرا بمخزون الفطرة والوجدان والمحددات الاجتماعية. ولهذا ترتبط القيم بنفسيّة الإنسان ومشاعره في الرّغبات والميول والعواطف التي تختلف من إنسان لآخر.

القوة الناعمة أحد أهم ميادينها القيم إذ تُبذل الجهود لفهم مدلولات القيم عند الشعوب، وتحديد ما هو في تقديرهم يُشكل عوائق أو مصدات؛ لتغلغل ثقافة وأنماط تفكير تريده القوة الناعمة ويتحقق لها الهيمنة. واستهداف القيم عند الاخرين يكون حسب قوة النموذج التي تصنعه القوة الناعمة، وما يحمله من جاذبية ثقافة ومبادئ يُبشر بها، وخصائص تجعل الغير يتطلع لها. وهذا ميدان تتبارى به القوى والدول في عالمنا لتكون مثالا يُحتذى ومصدرا مُلهما.

يذكر بعض الباحثين أن مصطلح القوة الناعمة عرفته البشرية في إرثها القديم وإن لم تطلق عليه هذا المسمى آنذاك.

وفي عصرنا يُنسب إبراز الاسم إلى جوزيف ناي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفرد حينما ألّف كتاب له حمل هذا المسمى “القوة الناعمة”، ثم طوّر الكتاب بإضافات وإشباعات وأصدره ثانيةً عام 2004م.

والمتتبع إلى ماهية القوة الناعمة فهي مذكورة في معظم الأديان وكتابات الحكماء والفلاسفة أمثال كونفيشيوس وسقراط وأفلاطون وأبن رشد والغزالي، وحتى هنالك إشارات لأبن خلدون في مقدمته. ومعظم تلك المرجعيات أرادت جوهر القوة الناعمة، وهي القدرة على مُحَاكاة ذات الإنسان والتأثير عليه، وإقناعه بمفاهيم وممارسات. إلا أن مفهوم القوة الناعمة بدأ يتأطر بأبعاد ممنهجة بعد الحرب العالمية الأولى، تبنتها دول كبيرة تجاه دول وشعوب أخرى تماشيا مع اتجاه بوصلتها ومُرادها، تَمثّل هذا خلال حقب الاستعمار في اختراقها للشعوب وتطبيعهم على مفاهيم وثقافة ذلك المستعمر ليستنزف الموارد منهم طواعية.

المُستهدف في أساليب القوة الناعمة هي مضامين الثقافة والقيم والهوية والتراث الديني والتقاليد، وما يمثل الشعوب في ماضيها وما تفخر به في موروثها. وهذا يحصل من خلال ممارسة ميكيافيلية يدخل فيها القدرة المعنوية في التغلب السياسي والاقتصادي والإعلامي والأكاديمي والتقني، والتشريعات الدولية المنحازة في احتكارية المعرفة وابتكار الفجوات المتنوعة، وكلُّ هذا تستغله القوة الناعمة في التغلغل والتأثير المتدرج ليفعل مفعوله على حياة الشعوب، طامحة لفرص الهيمنة والترويض لجعل الدول تابعة لها. وهذا زخم مثل حرب بلا دخان، يرضخ له كثير من التابعين، أو أحيانا المتأثرين المنسجمين، وآخرين يتمنعون عليه مقاومين منكرين. فيُخلق تدافع طالما يعكس جهد غالب ومغلوب وكأنه صراع أيدلوجي.

الآثار القريبة والبعيدة للقوة الناعمة في استهدافها للقيم هي إضعاف جودة السلوك والأمن المجتمعي، بما فيها ضمور الإحساس في تقدير الذات. بل يميل فهم المتأثر بالقوة الناعمة أن مجتمعه غير قوي ولا هو حرّ مستقل، وقد تبلغ السلبية عند بعضهم أنه لا قابلية لهم على التنافس والندية. 

وأمر آخر قد يصل أثرها إلى تعميق استرخاء شخصية الفرد وسلوكه المجتمعي لتختلط فيها موازين الجد والهزل، والنحي إلى عشوائية لا تلتزم النظام والقانون، وهذه الحالة قد تطال عدم الاحتفاء بالعمل والإنجاز، وتضمر فيها قدرة التنافس في المجتمع.

ولهذا حماية القيم هي مطلب؛ لأن القيم بمثابة بنية تحتية يرتكز عليها الوطن وهويته، ماضيه وحاضره ومستقبله، والانتماء للوطن وولاته وشعبه، باعث على اليقظة في تحصين الوعي من مداخل ومدارج القوة الناعمة.

ذكائية التعاطي مع أصحاب القوة الناعمة بأخذ ما ينفع وردّ ما لا ينفع بصوت حكمة وحذق، دونما استعداء أو إقصاء، أسلوب فطين لمدافعة تأثيرات في ظل عالم منفتح بين كافة الشعوب في إعلام رقمي أشبه بقرية صغيرة.

هذا الموضوع من مدونات القراء
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected]
صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .