العدد 5960
الجمعة 07 فبراير 2025
banner
خربشة ومغزى.. "الجَدَل.. آفة نزاع ولَّدَد وبِيزَنطِيٌّ"
الأحد 24 نوفمبر 2024

الجَدَل آفة تفضي إلى نزاع وخصومة ولَّدد ويقال في الوصف أحيانا بيزنطي. هو قديم عبر الزمان عند الإنسان يحدث بين أفراد ومجتمعات، منهم متكلمون وفلاسفة وعلماء دين ولاهوت، ولا تسلم منه أتون السياسة والإعلام، وفي أيامنا بعض منصات التواصل وأهل الأقلام. 

سُمِّي الجدل لشِدَّتِه، وحصول مراء لا نفع فيه يُفرق لا يُقرب، يدفع لَّدَدُ خُصومةِ وقُدرةُ عليه. وكُلُّ هذا من مذام الصفات، وفيه هدر للأوقات. أورد أبن المنظور في لسان العرب أن هنالك "جدل فيه مُقابلةُ الحُجَّةِ بالحُجَّةِ حين المناظَرةُ. وأخر يدخل في المفاوَضةُ على سَبيلِ المنازَعةِ والمغالَبةِ، جَدَلُ يدَفعُ المرءِ خَصمَه عن إفسادِ قَولِه، بحُجَّةٍ أو شُبهةٍ، أو يَقصِدُ به تصحيحَ كلامِه".

المِراءُ والجِدالُ يتداخلان في المعنى، وفي المعجم التَّماري والمُماراةُ هي المُجادَلةُ، ويُقالُ للمُناظَرةِ مُماراةٌ من كَثرةُ المُلاحاةِ للشَّخصِ لبيانِ غَلَطِه وإفحامِه، والباعِثُ على ذلك التَّرفُّعُ، وطَعنٌ في كلامِ الغَيرِ لإظهارِ خَلَلٍ فيه، من غيرِ أن يرتَبِطَ به غَرَضٌ سِوى تحقيرِ.

أما جدل بيزنطي هو استخدام قديم وعصري للإشارة إلى المناقشات الفارغة التي تؤدي إلى لا شيء في النهاية فيصفونها بذلك.

مرويات التأريخ وهو رأي تذكر جذور هذا الجدل المنسوب إلى بيزنطة قبل قرنين من الزمان لوجود بيزنطة. حيث بداياتها كانت أفكار تحديدا في مصر وفلسطين القرن الثاني ميلادي لها صلة بهذا اللفظ، وذلك حينما ظهرت أناجيل كثيره تتحدث بأشكال مختلفة عن مخلِّصٍ جاء من السماء في المدينة المقدسة أورشليم عند اليهود. وقد اتخذ هذا المخلص أي المسيح أو يسوع صوراً كثيرة في تلك الأناجيل منها؛ أنه إنسان يصل بفكره إلى الحقائق أي الغنوصي )والغنوصية كلمة يونانية تعني المعرفة(، أو إنسان موفد إلى الأرض برسالة من السماء بمعنى نبي، وأخرها أن الانسان هو الإله الذي تجتمع فيه البشرية والألوهية. الطريف في ذلك يُذكر أمه في منتصف القرن الثالث ميلادي الملكة العربية "زنوبيا" ملكة تدمر في الشام كانت ترعى فكرة أن يسوع نبيٌّ من عند الله.

حينما أطاح الرومان بالملكة زنوبيا وظهر حينها الراهب السكندري الليبي الأصل"آيروس" أذاع هذه الأفكار ثانية، فأثار رجالات الكنائس وشكاه الأساقفة إلى الإمبراطور قسطنطين وكان يحكم مَن مدينته بيزنطه. قسطنطين حينها كان حريصاً على إرضاء الكنائس الكبرى.  

هذا التفاوت في فهم وتفسير طبيعة المسيح ودلالات كلمات الأقنوم (أصل أو جوهر) والتجسد سببت إلى انعقاد مجالس مسكونية (عالمية) صاحبها جدل مذهبي قد بلغ منتهاه، وتعذر توحيد الرأي خلالها ونتج عنها خصومات واقصاء لكثير من رجال الدين.

منطلق هذا الجدل كان في بيزنطة مقر الإمبراطور الذي كان ميدانها الأول ومحل ابتدائها ومنتهاها. حينها أنتهى الجدل البيزنطي إلى الفرقة والانقسام والعداء بين الكنائس، وهكذا أُطلق التوصيف الدارج بين الناس الجدل البيزنطي الذي لا يتأتى منه نتائج إيجابية.

يطرأ التفكير في حيثيات هذا المقال ذكر النقاش وهو أداة تواصل بين الناس وضمن محاذير تجنب الجدل. والنقاش فعل صحي، حتى لو تنوعت أو اختلفت الآراء دونما اتفاق سيما إذا فيه محاولة نشدان الحقيقة، وهذا مغاير للجدل الذي فيه حدة طرف على آخر، أو مقابلة بعكس كل ما يقوله الطرف الآخر، وأحيانا تتبين مع نبرة الصوت وسرعة الرد ومقاطعة المتكلم. وهذه آفة بين الناس تورث أحقاد وضغائن، ينال منها المتربص وينفر منها الصديق.

الآداب المرعية ترى في الكلام باختلاف أنماطه حيادية المعنى، بل فيها مراعاة تأكيد مضان الاتفاق، وموضوعية بحث نقاط الاختلاف.

القرآن الكريم ذكر الجدل في مواضع كمثل قوله تعالى؛ "وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ"، وقوله سبحانه: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ". وكذلك هنالك قاعدة ربانية في تناول الجدل "وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"، وآية أخرى"وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ".

في النصوص القرآنية الجدل ما تم ذكره أمراً أو مدحاً، بل كان مقيدا بالحسنى. ولهذا من تحلى بالبصيرة فهو ينظر الى جانبي الجدل إظهاراً للصواب، وبهذا يسلك طريق محمود، ولذا فإن المناظرة في أصلها سليمة. وما أطيب ما جاء في الهدي النبوي"إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطيه على العنف وما لا يعطي على سواه"

هذا الموضوع من مدونات القراء
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected]
صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .