العدد 5899
الأحد 08 ديسمبر 2024
banner
خربشة ومغزى.. "ابن المقفّع أديب بليغ. قتله طيشه"
الأحد 03 نوفمبر 2024

ابن المقفع هو رُوزَبَيْه بن داذوية ولد في مدينة جور التي يُطلق عليها اليوم فيروز آباد سنه 106هـ (725م). نشأ على مجوسية أبيه وتشرب منها الثقافة الفارسية، إذ ألَمَّ بجوانبها وأبعادها. بعدها أمضى شبابه في مدينة البصرة بالعراق حيث نهل آنذاك من العربية وعلومها وبرع فيها، مما جعله كاتبا أواخر العهد الأموي عند آل هبيرة الذين حكموا العراق عهد يزيد بن معاوية، ثم خدم كاتبا متفرغا مع والي الأحواز عيسى بن علي السفّاح عم أبي جعفر المنصور حينها أعلن إسلامه وسمى نفسه عبد الله، وعُرف منذ ذلك عبد الله بن المقفّع، وهو يعتبر ممن أثْرَوْا بالتنظير والترجمة والأدبَ بكتابات بليغة. 

والمقفّع هي صفة أُطلقت على أبيه حينما كان في البصرة يعمل في أعمال الخراج فاختلس بعض المال كما يُروى فضربه الحجاج والي العراق حتى تقفّعت يداه أي تشققت وأنتفخت وأحمرّت. وقيل، بل كان يعمل قفاع الخوص وتسمى القفة لا عُرى لها يُجْنى فيها الثمر.

مات ابن المقفّع ميتة مأساوية عهد أبو جعفر المنصور حيث كان أمير البصرة آنذاك سفيان بن مُعاوية بن يزيد بن المهلب بن أبي صفرة وذلك عام 142هـ(759م) ولم يتجاوز السادسة والثلاثين من عمره، وسبب قتله قيل طيشه، كما ذكر صاحب سير أعلام النبلاء الإمام الذهبي المُتُوفي عام 748هـ(1347م). إذ جاء وصفة عنه كذلك أنه "أحد البلغاء والفصحاء ورأس الكتاب وأولي الإنشاء".

وكيفية موته حسب المرويات أن خصمه والي البصرة المهلبي مسكه فأمر له بتنور فسُجر أي أُوقِدَ ثم قطع أربعته ورماها في التنور وهو ينظر. وقد تداخلت عدة عوامل لسبب القتل منها؛ مناصرته لعبد الله بن علي المُتُوفي عام147هـ(765م) وهو عم الخليفة أبي جعفر المنصور المُتُوفي عام 158هـ(776م) الذي كان ولي عهده. ومن الأسباب كذلك هو سبُّ أبن المقفع لأم المهلبي والي البصرة الذي قتله. ولعل العامل البارز في مقتله أنه كان كما وصفه معاصره الخليل بن أحمد الفراهيدي المُتُوفي عام 175هـ(792م) "علمه أكثر من عقله"؛ فكان سيئ التدبير لنفسه، وسهل رميه بالزندقة حتى قال الخليفة المهدي بن المنصور المُتُوفي عام 169هـ(786م)؛"ما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله أبن المقفع". 

ذكر الإمام الذهبي كذلك عن الهيثم بن عدي قال له (أبن المقفع)"أريد أن أسلم على يدك بمحضر الأعيان ثم قعد يأكل ويزمزم بالمجوسية فقال ما هذا؟ قال؛ أكره أن أبيت على غير دين وكان أبن المقفع يُتهم بالزندقة وهو الذي عرّب كليلة ودمنة". القول بالزندقة عنه فيه جدل عند الباحثين.

أبن المقفّع لمن أطلع على كُتبه يجده مُتقد الذكاء، متسع القول، قويِّ الحجة، بارعا في عرض آرائه واستمالة الناس. كليلة ودمنه من أبرز ما عُرف عنه، بل أنفس ما كتب حيث ذاعت شهرته الأدبية وخلوده في ميدان الفكر والثقافة. هذا الكتاب وضع على السنة البهائم والطير مواعظ وحِكم وأمثال وفصولا ممتعه من القصص المستقاة من مصادر فارسية وهندية، وأصَل كتاب كليلة ودمنة فقد أُختلف فيه فبعضهم يقول كما يصرح به أبن المقفّع في مقدمة الكتاب أنه نقله من الفارسية القديمة أي الفهلوية، وآخرون يَرَوْن أن الكتاب من تأليف عبد الله بن المقفَع لأن أبن المقفع خشي أَذى الحكام وبطشهم، لأنه تضمن أراء نقدية جريئة تعرّض بهم وبأعوانهم وتدين بطشهم وتسلطهم، وكذلك غرورهم وجهلهم وطيشهم وظلمهم للرعية. فلذا أنكر نسبة الكتاب إليه ونحله إلى بيدبا الفيلسوف الهندي وأدعى أنه نقله عن الفارسية. 

كليلة ودمنة يُعد كتاب تهذيب وتعليم وإصلاح، ازدان بأسلوب فني أدبي تصويري ممتع، يدفع قارئه أن يغوص في حِكم خالده، وعبر هي سلوى للقلوب تسرّي لمن يعانون واقع المفاسد والاستبداد، والجهل والفقر، وموجها لمكارم الأخلاق، وفضائل القيم والصبر والشجاعة. كليلة ودمنة تعددت طبعاته وتُرجم إلى معظم لغات العالم.
 
ولابن المقفّع كذلك كتابان الأدب الصغير والأدب الكبير، وفيهما كلامِ الفضلاء، بسبك راقي وأسلوب أدبي رفيع. أما كتاب الدرة اليتيمة فقد قال عنها الأصمعي صنف أبن المقفع الدرة اليتيمة التي ما صُنف مثلها، ومن قوله شربت من الخطب ريا ولم أضبط لها رويا فغاضت ثم فاضت، فلا هي نظاما ولا هي غيرها كلاما. وهنالك كُتب أخرى تُنسب له نقلها عن الفارسية أو الهندية والبنغالية أو اليونانية قد ضاع نُسخها الأصلية هي؛ مزدك، باري ترمينياس، أيين نامة ـ في عادات الفرس، التاج ـ في سيرة أنو شروان، أيساغوجي ـ المدخل، ميلية سامي ووشتاتي حسام وعمراني نوفل، رسالة الصحابة. 

من أقوال ابن المقفع؛
-أما بعد، فإن لكل مخلوقٍ حاجةً، ولكل حاجةٍ غايةً، ولكل غاية سبيلاً.
-والله وقّت للأمُور أقدارها، وهيأ إلى الغايات سبلها، وسبّبَ الحاجات ببلاغها.
-فغايةُ الناسِ وحاجاتهم صلاحُ المعاشِ والمعاد، والسبيل إلى دَرْكها العقل الصحيح. وأمارةُ صحةِ العقلِ اختيار الأمورِ بالبصرِ، وتنفيذُ البصرِ بالعزمِ.
-الأدب ينمي العقول، وللعقولِ سجياتٌ وغرائزُ بها تَقبَلُ الأدب، وبالأدبِ تنمى العقولُ وتزكو.
 
عبد الله بن المقفع، كما أورد عنه المؤرخ الصفدي المُتُوفي عام764هـ(1363م) في كتابه"الوافي بالوفيات" أنه جوادا سخيا يُطعِم الطعام، ويصل كل من أحتاج إليه" وهذا جزء مما قيل عنه. 

هذه إطلالة من التراث فيها دروس وعبر، والمظنون إن أبن المقفع أصابه "عين الكمال"، عبارة أطلقها مؤرخ الأدب العربي أبو منصور الثعالبي المُتُوفي عام 429هـ(1039م). وعين الكمال حالة حين يصل الشئ منتهاه ويبلغ غايته، ووافق أعجاب من يراه، وهي تتشكل ظاهرة يعيشها بعض أهل الشهرة والتميز قديما وحديثا حتى يظنوا أنهم وصلوا البُغلة المعرفية فيتحدثون بأمر العامة والشؤون السياسية، والتنظير في مقاس أكبر من إحاطتهم لا يخلو من نبز للغير دونما توقير لهم، فينقلب عليهم شؤم النهاية.

هذا الموضوع من مدونات القراء
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected]
صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .