لبنان بين حنين ماضٍ ولّى ولم يعد، وحاضر متأزم في عنق زجاجة تضيق وأحياناً تنسد. حنين يحمل رائحة شجرة اللوز، وهامات الأرز، وغابات الصنوبر، وينابيع تتدفق، وجمال الورد، والعصافير التي تنشد. ماضٍ كان مفعماً بالفكر والأدب والفن. هو بلد صغير، ولكن بداخله روح التنوع، نسيجه الإثني معقد كتعقيد تضاريس أرضه وجباله وسواحله. زرقة مياه البحر الأبيض المتوسط فيه تحاكي بياض ثلج جباله وخضرة مروج وديانه الساكنة.
بلادٌ صدّرت اللباقة وذلاقة اللسان، وخدمة تتواضع دونما إذلال، تلك هي النكهة التي عبر عنها إيليا أبو ماضي.
أَلا أَيُّها الإِبريقُ ما لَكَ وَالصَلف
فَما أَنتَ بَلّورٌ وَلا أَنتَ مِن صَدَف
وَما أَنتَ إِلّا كَالأَباريقِ كُلِّها
تُرابٌ مَهينٌ قَد تَرَقّى إِلى خَزَف
أَرى لَكَ أَنفاً شامِخاً غَيرَ أَنَّهُ
تَلَفَّعَ أَثوابَ الغُبارِ وَما أَنِف
بلد؛ الفينيقيون قديما توطنوه، والبحر عرفوه وامتطوه. الأبجدية فيه أُبتدعت، وهجرات تترى تعاقبت، وجينات أختلطت وتشكلت. وللعروبة تَصَيَّر، ولسان الضاد فيه عَبَّر، وكان منهم شعراء وأدباء مهجر. منهم جبران خليل جبران صاحب الأهزوجة؛
ليس في الغابات راعٍ.. لا ولا فيها القطيعْ
فالشتا يمشي ولكن.. لا يُجاريهِ الربيعْ
خُلقَ الناس عبيداً.. للذي يأْبى الخضوعْ
فإذا ما هبَّ يوماً.. سائراً سار الجميعْ
أعطني النايَ وغنِّ.. فالغنا يرعى العقولْ
وأنينُ الناي أبقى.. من مجيدٍ وذليلْ
هكذا لبنان تمتع حرية قرون، وطاله كذلك استعمار ومَنُونُ، وتنفس صعداء استقلال سنون. وحاضر إحباط مسكون.
والحديث عن لبنان يدفع لطلة معرفية عن ماضيها؛ وهي ضمن جغرافية أُطلقت منذ القدم على منطقة محاذية لساحل بلاد الشام. ولفظ لبنان أُشتق من الجذر السامي"لبن" يعني البياض والإشارة هنا إلى بياض الثلوج التي تكسو القمم اللبنانية وإبرازها عن جوارها في الشتاء، وبلاد الشام كانت تضم لبنان، وهو أسم أطلقه العرب منذ القرن الرابع ميلادي على هذه الأرض.
الإغريق والرومان قديما أطلقوا على بلاد الشام"سورية"وهذا الاسم مأخوذ من لفظة"Assyria"أي"آشور"حينما كانت الشام خاضعة للدولة الآشورية التي مركزها شمال العراق، والمعروف تاريخيا أنَّ الفينيقيين سكنوا أرض لبنان قرابة الألف الثالثة قبل الميلاد. خلال فترة الفينيقيين الذين نزحوا من الجزيرة العربية خلال (3000-539) قبل الميلاد اشتهرت"صيدا وصور" بتجارتيهما البحرية. أما"جبيل ببييلوس"فاشتهرت بمراكزها الدينية وتجارتها مع مصر الفرعونية بتصدير خشب الأرز والزيتون والنبيذ.
يرجح أن نزوح قبائل العرب بنطاق واسع من الجزيرة العربية إلى الشام تم في غضون القرن الأول ميلادي.
كان الرومان حينها لهم سيطرة عليها إلى أن جاء القرن الرابع ميلادي فكان العنصر العربي قد طغى على أجزاء كبيرة على البلاد الشامية ومنها لبنان.
هناك كان تمكن لملوك النبط"عرب مستعربه"وبعدهم ملوك غسان "عرب عاربة"وكانوا تبع للحكم الروماني. بالمناسبة مصطلح عاربة ومستعربة هو اعتباري جدلي درج متأخرا استخدمه بعض المؤرخون والنسابون. آنذاك بدأ انتشار المسيحية الذي كان في القرن الأول ميلادي في "عهد الرسل" وذلك لكثرة الإرساليات المسيحية فدان العرب النبط والغساسنة بالنصرانية، كما دانت بها بقايا الشعوب القديمة الآرامية أصبحت "السريانية "وهي فصحى الآرامية، لغة الطقس الكنسي لدى الجميع. بينما أستمر العرب يحافظون على لغاتهم كلهجات محكية. تحولت بعدها معظم القبائل العربية هناك إلى الإسلام بداية عام 634م والتي فيها خرج الروم.
المرجح أن أصول معظم "الموارنة " وهم طائفة مسيحية تنتسب باسمها إلى قديس نشط ظهر في القرن الرابع ميلادي في الشام أسمه"مارون الناسك"وهو إما من النبط أو من عرب اقحاح. نزح بعدها أتباعه إلى لبنان تخلصا من مطاردة الإمبراطورية البيزنطية التي تخالفهم في المذهب. خلال القرن الخامس ميلادي برزت فئه تدعى "المردة"أصولهم عشائر من بر الأناضول جاء بهم الروم إلى جبل "اللكام"دون مدينة "أنطاكية" ووطنوهم هناك كرديف عسكري للاستعانة بهم ضد الفرس، ثم ضد المسلمين. والواقع أن هؤلاء "المردة"
استمروا مقيمين في تلك المنطقة بعد الفتح الاسلامي للشام، وبقوا على صلة عسكرية بالروم بعد جلائهم عن البلاد،
فتكررت غاراتهم على مواقع المسلمين عهد الخلفاء المتقدمين من "بني أمية"، وأنضم إليهم الكثير من أبناء الأنباط إلى أن اخمدت غاراتهم عهد "الوليد بن عبد الملك"ولم يعد لهم بعدها شأن يذكر.
تاريخ جديد للبنان تم في العصور الإسلامية الأولى التي ازدهرت فيها الحياة، وورثت وتوالدت فيها فسيفساء تمذهُب وطوائف دينيه إسلامية ومسيحية ويهود امتد أثرها إلى زماننا هذا، ويقدر عددها "تسعة عشر".
هكذا لبنان عبر العصور جذبت وتوطنت بها جذور فينيقية اشوريه عربية رومانية تركية فارسية، بل حتى أوربية من عهد الصليبيين وفترة الانتداب الفرنسي، فأنتجت جمال خِلقة جينيه، وتمايز ظهر أثره في العلوم الشرعية واللاهوتية والتجارة والفن والآداب، بل الثقافة والنشر وصدَّرت مشاهير يُشار لهم.
ظلت لبنان منذ انتزاع الاستقلال من فرنسا عام 1943م تماوج فيها صعود لم يدم طويلا، ونزول أفضى متأخرا إلى تخلخل وضمور في التنمية، أحدثه تنافس قوى الداخل وأثر الخارج دفع الملايين للهجرة. حتى تشكل حاضر طال البعض؛ ثناياه انتقام أفكار، وآفة ألسنة حِداد لها آذى أبتلع فحيح شرفاء همهم وطنهم ومستقبلهم. ظاهرة غير محمودة لا تخلو من تسيس نفعي رئته خارجية ترتطم مع إرادة تَّغيير وبناء. مشهد أكتظ في العقول وسطح مناحي الحياة والإبداع حتى انثلمت خصوصيّه الذَّات، وافرزت إشكاليات وتحديات حروب ما طفئ أوارها في بلد وديع.
الأمل والفأل ناموس لا يخفت عند أصحاب الإرادة في التغيير، ومالك بن نبي المفكر الجزائري يحدثنا عن أهمية قوانين التفكير والاجتماع والرُّوح الثقافية في عصر الفعالية والاقتدار الذاتي؛ أن المجتمعات الحضارية التي تملك وتسود هي من تحقَّق العدل الاجتماعي وكرامة المواطن، والتي تخبو بها القدرة الحضارية هي من يغيب فيها أثر مُلزم لمؤسَّسات وتشريعات تحافظ على كينونة البلاد وتنميتها. ولبنان بماضيه وجمال طبيعته وإمكانات عقول أهله قادر على التغيير لمستقبل مشرق.
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |