حديث أخذني مع صديق في تذوق معنى مفردة مشاكلة، وما في بيان اللغة العربية عنها، تذكرت حينها أبيات شعر لشاعر وأديب، ومن أمراء البيان، حوران مولده، والموصل مثواه الأخير سنة 231هـ؛ هو أبو تمام حبيب بن أوس الطائي واصفا التآخي؛
وقلتُ أخي، قالوا أخٌ ذو قرابة ٍ؟
فقلتُ ولكنَّ الشُّكولَ أقارِبُ
نسيبي في عزمٍ ورأي ومذهبٍ
وإنْ باعدتْنا في الأصولِ المناسبُ
وهي أبيات من قصيدة مطلعها؛
هوَ الدَّهرُ لا يُشْوي وهُنَّ المَصَائِبُ
وأكثرُ آمالِ الرجالِ كَواذِبُ
المُشاكَلةُ كلمة مصدرها شاكَلَ يُشاكِلُ مُشاكَلةً، وتعني الموافقة والمشابهة، وهي كذلك ذكر الشئ بغيره لوقوع صحبته وهذا من التقريب والتقدير. والشَّكل هو الشبه والمِثل وجمعها أَشْكَالٌ وَشُكُولٌ كقول الشاعر؛
فَلَا تَطْلُبَا لِي أَيِّمًا إِنْ طَلَبْتُمَا
فَإِنَّ الْأَيَامَى لَسْنَ لِي بِشُكُولِ
ومنها قول؛ يُتشاكل شيئان تَشَاكَلَنِ ، وَشَاكَلَ كلُّ واحد منهما صاحبه. والعرب تصف من شبه أباه أي شَكْلٌ وَأَشْكَلَةٌ وَشُكْلَةٌ وَشَاكِلٌ وَمُشَاكَلَةٌ. وفي التنزيل قوله تعالى"وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ" والمعنى أنواع أُخَرُ مِنْ شَكْلِهِ. وَالشَّكْل هو المِثْلُ كقول؛ هذا على شَكْلِ هذا أي مثاله، وفلان شَكْلُ فلان أي مثله في حالاته أو من ضَرْبِهِ ونحوه. وَالْمُشَاكَلَةُ تعني كذلك الموافقة، وَالشَّاكِلَةُ تعني الناحية والطريقة كقوله عزوجل؛"قُلْ كلٌّ يعمل على شاكلته". وَشَكْلُ الشيء صورته المحسوسة والمُتخيلة، وَتَشَكَّلَ الشيء أي تصوَّر، وَشَكَّلَهُ هو صورته.
وهنالك تعبير لغوي عند العرب بتكرار اللفظ بما هو شكله، وتسمى المشاكلة اللفظية كقول عمرو بن كلْثُوم؛
ألاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا
فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلينَا
وفيه تأديبَ الجاهل على جَهْلِهِ جَهْلاً، أي تعبير فيه لفظ مشاكلة، مع أنّ التأديب والعقاب ليسا من الْجَهْل. والمرادُ من الجهل هنا السّفَهُ والغضَبُ المنافي للحلم وما ينتُج عنه غير محمود.
والقرآن الكريم ذخُر فصاحة، وفيه كثير من التوظيف البلاغي والبياني في المشاكلة اللفظية مثل قول الله عزّوجلّ؛ "فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين" تفيد أن مقابلة الاعتداء بمثله لا يُسَمَّى في الأصل اعتداءً، ولكن سوَّغ هذا الإِطلاق داعي المشاكلة، ولِيُعْطيَ اللَّفْظُ معنى المماثلة في تطبيق العُقُوبَةِ دون زيادة، لأنّ معنى كلمة "اعتدى" في الأصل تجاوز حدود الحقّ، ومن العدل أن يُقابَل التجاوز مماثل له.
وكذلك قوله تعالى حكاية عن سيدنا عيسى عليه السلام"تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ". تفيد المجانسة اللفظية في إطلاق النفس على ذات الله عز وجل لوقوعها في صحبة (نَفْسِي). ومزيد من ذلك في القرآن"وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا"لأن سيئة الثانية بمعنى الجزاء وهو حق، فلا يُوصف بأنه سيئة على الحقيقة.
وهكذا بَاب الْمُشَاكَلَة وقوعه بصحبة اللفظ وارد في النصوص، ومنها ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى في الحديث القدسي: "قَالَ اللهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، إِنْ ذَكَرْتَنِي فِي نَفْسِكَ ذَكَرْتُكَ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرْتَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُكَ فِي مَلَإٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ دَنَوْتَ مِنِّي شِبْرًا، دَنَوْتُ مِنْكَ ذِرَاعًا، وَإِنْ دَنَوْتَ مِنِّي ذِرَاعًا، دَنَوْتُ مِنْكَ بَاعًا، وَإِنْ أَتَيْتَنِي تَمْشِي، أَتَيْتُكَ أُهَرْوِلُ". معنى (ذَكَرْتُكَ فِي نَفْسِي) أي: أسر بثوابك على منوال عملك وأتولى بنفسي إثابتك لا أَكِله لأحد من خلقي، فإطلاق النفس على ذات الله عز وجل وارد على منهج المشاكلة لوقوعه في صحبة (نَفْسِك).
ولهذا أسلوب المشاكلة في اللغة العربية يُعد من الظواهر اللغويه الصرفية والصوتية، فيه جمال العبارة وسمو المعاني حينما يقع التشابه في اللفظ، وهذا مُحسِّنٌ من المحسنات المعنوية يُدرَك بالتأمل والتفكر، ويستقر في الذهن وترتاح إليه النفس. وتُسمى كذلك عند بعض أهل اللغة مثل أحمد بن فارس المُتوفي عام 395هـ المحاذاة والمزواجة.
وضرب آخر عن المشاكلة حين تميل وتنسجم أصوات المفردات في المخارج والصفات في مماثلة صوتية توفر جهد المتكلم، فهذا باب واسع التفصيل عند متخصصي اللغة. وله مندوحة مثل في أفعال تبدأ بصوت الزاي، نحو :زان، زار، زجر، وتكون على صيغة افتعل؛ ازتان، ازتار، ازتجر، وهذا فيه تماثل في مخارج الاصوات والتقاءها وتقاربها في الصفات، ومنها كذلك حين تتحول إلى؛ ازدان، ازدار، ازدجر.
مصطلح المشاكله أتاح تنزّه أدبي أزهى بلذائد، وذوق وارب، وفي مندوحة لفظ مشاكلة يُذكر أن؛ التوالُف منها، وتضارع الصفات من نبتها، والحبُّ كذلك فيه تقادح جواهر النفوس المتقاطعة بوصل المشاكلة، وهي تبعث لمحة نور تستضئ بها بواطن الأعضاء، فتُحرك إشراق موائمة طباع، وفيها أحلى مشتهى لفظي ومعنوي.
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |