رَويَّةٌ سرت، وذوق تشبع في زيارة متحف الشاي في مدينة الخبر الزاهية، آنسي فيه حديث صاحبة رحالة الخبر الأستاذ وائل الدغفق. متحف أكتنز آلاف المعروضات بذل فيها جهد لأربعة عقود لاكتماله. مَجِيء تملكني لأكتب عن الشاي الذي يُعدّ أحد استفرادات الصين وتوصيله لثقافة الضيافة البشرية.
كتاب لمحة عن الثقافة في الصين لمؤلفه تشنغ يوي تشن ترجمة عبدالعزيز حمدي، ذكر أن الصين كانت قديما مُصدر الشاي في العالم، وفيها منبعه الأصلي(قيل أنها يونان)، وشُرب في مقاطعة "سيتشوان"، وعُرف كذلك قبل عصر أسرة تشين التي حكمت في المائة الثالثة قبل الميلاد حينما زرع رجل الشاي في مقاطعة سيتشوان وشربه، بعدها انتشرت عادة احتساء مشروب الشاي عندهم وتقديمه إكرام للضيف.
الشاي في بداية أمره نوعا كان من العقاقير الطبية ثم أدرك الناس فيما بعد من خلال الممارسة العملية في مجال الطب والدواء أن الشاي هو كما هو لشفاء المرضى ممكن أن يخفض درجة الحرارة، فهو يروي الظمأ ولذيذ الطعم لمذاقه العطري، بل تفوح منه رائحة شهية زكية تعبق الأنوف.
عام 80 ميلادي عندما عاد الراهب البوذي الياباني الذي كان يتعبد في معبد "قوي تشينغ" في جبل تيانتاي إلى بلاده حمل معه بذور الشاي، وكان ذلك بداية تاريخ شرب الشاي في اليابان. ولم ينتشر ويصبح معروفاً في العالم إلا في القرن السابع عشر وما بعده، وقد كانت أول شحنة من الشاي قد وصلت أوروبا في عام 1610م وهو أوّل عهد الأوربيين بالشاي. وبعد القرن السابع عشر ميلادي دخلت أوراق الشاي الصيني إلى إندونيسيا والهند والرصيف القاري الأوربي - الأمريكي وأصبحت من المشروبات العالمية.
كتاب الشاي من تأليف "لويو" في عصر أسرة تانغ القرن السابع ميلادي، يعتبر أقدم كتاب متخصص في أوراق الشاي عرفته الصين حيث لخص أنواع الشاي وخبرات شرب الشاي. شكَّل استعمال الشاي نوعين من العادات الشائعة في تاريخ الثقافة الصينية هما؛ تقييم مياه الينابيع إذ لها تأثير في طعم الشاي وقرض الشعر أثناء احتساء الشاي. ولهذا الشغف في شرب الشاي عند الملوك والأباطرة الصينيون دفعهم لصنع مكيال فضي يستخدم في وزن مياه الينابيع. وعُرف في ثقافة الأدباء الصينيين أنهم يجتمعوا في المناطق المشهورة بالينابيع، ويجلسون في المقاصير والبنايات العالية ويحتسون الشاي، ويتأملون ملياً صور الجبال التي تنعكس على صفحة ماء البحيرة، وتهتز أوتار قلوبهم ثم ينشدون الشعر حسب القوافي لتضيف لوناً من الذوق الجمالي الفني. تاليا في القرن العاشر ميلادي تم ذكر الشاي من قبل الجغرافي الأوزبكي الخوارزمي “البيروني، “بأنّ الصينيّين كانوا يشربون شراباً ذهبيّاً يسمّى شراب التشاي (چاي)”.
أمّا العرب فقد عرفوا شُرب الشاي فعليّاً منذ القرن التاسع عشر، وهي نفس فترة انتشاره في سوريا والأناضول وتركيا من بعد ترخيص استيراده من قبل الحكومة العثمانية، وقد دخل أولا من العراق عن طريق الشركات الإنكليزية العاملة في إيران، إذ كان الشاي قد أنتشر في إيران قبل دخول الدولة العثمانية، مما نشر التسمية الفارسية للمشروب في اللغة العربية چاي.
في العراق دخل الشاي مع الشركات البريطانية من البصرة، اختُلقت تسمية “استِكان”، اشتقاقاً عن العبارة الإنكليزية (إيست تي كان) East Tea Can، ومعناها علبة شاي شرقي، وهكذا يُطلق العراقيون اليوم تسميّة “إستِكان چاي” على فنجان الشاي.
وفي مصر، دخل الشاي مع الضباط البريطانيين عام 1822م، ولكنّه استمر بدايةً مشروباً نخبويّاً مقصوراً على العائلات الأرستقراطية والملكيّة، وكانوا يسمّونه وقتها “الخرّوب”، ثمّ عمّ شرب الشاي بمساعٍ من حملات التسويق الإنكليزية.
في المغرب اشتُهر الشاي (أتاي عن الفرنسية) في القرن الثامن عشر، بعد أن قدّم مبعوثون فرنسيّون هدايا فدية للسلطان العلوي مقابل إطلاق سراح أسراهم، وكان بين الهدايا أكياس شاي وسكّر.
احتكرت شركة “الهند الشرقية” البريطانيّة توريد الشاي إلى المستعمرات البريطانية حول العالم حتى 1834م، ثمّ بدأت الامبراطورية البريطانية بشرائه من الشركات الأميركية. ووصل الشاي إلى المستعمرات الأمريكية عام 1680م، وكان المشروب المفضل لدى المستوطنين حتّى استبدلته القهوة.
خلال القرن الثامن عشر بدأت الشركات الروسية بتصدير الشاي الفرغاني من وسط آسيا نحو أوروپا، ولفترة طويلة من الزمن، فاشتهر آنذاك الشاي الأسود باسم “الشاي الروسي”، إذ كانت القوافل الروسية تنقله من تركستان إلى أوروبا الشرقية.
كتب الشاعرُ العراقي أحمد الصافي النجفي قصيدةً يتغنّى فيها بالشاي، فكان لها صدى كبير، وتُرْجِمَتْ إلى الإنجليزية، ومما قال فيها:
لئنْ كانَ غَيْرِي بالمُدامةِ مُولَعاً
فقَدْ ولعَتْ نفسي بشَايٍ مُعَطّرِ
إذا صُبّ في كأسِ الزّجاجِ حسِبْتَهُ
مُذابَ عَقيقٍ صُبَّ في كأسِ جَوهرِ
بهِ أحتسي شَهْداً ورَاحَاً وسُكّرَاً
وأنْشُقُ منهُ عبْقَ مسْكٍ وعَنْبرِ
يُجِدُّ سرورَ المرءِ مِن دونِ نشْوةٍ
فأحْبِبْ به مِن مُنعِشٍ غيرِ مُسْكِرِ
خلَا مِن صُداعٍ أو نزيفٍ كأنّهُ
سُلافةُ أهلِ الخُلْدِ أو ماءُ كوثَرِ
فللهِ أرضُ "الصّينِ" إذْ أنْبَتَتْ لَنا
ألَذَّ نباتٍ بالمَسرّةِ مُثْمرِ
لَوَ انّ ابنَ هانِي فازَ منهُ بجُرعَةٍ
لَرَاحَ بأقْداحِ ابْنةِ الكَرْمِ يَزْدري
ولَو ذاقَهُ الأعشى وحكّمَ في الطّلا
وفيه لَقَال: الفَضْلُ للمُتَأخّرِ
فَلِلْفَمِّ أحْلَى مَشْربٍ مِن مَذاقِهِ
وللعَينِ مِن مَرآهُ أجْملُ مَنْظرِ
إذا فارَ ما بينَ السّماورِ مَاؤهُ
سمِعْتَ لهُ أنْغامَ نَايٍ ومزهرِ
فأشْربُ مُرتَاحاً علَى نَغَمَاتِهِ
كُؤوساً وما نَقْلِي لهُ غير سُكّرِ.
هكذا العراقيون لهم شغف في الشاي حتى تجد بعض زوايا مباني الأسواق باعه يضعوا منقلة تحتضن جمر لاهب وهادئ تصطف عليه أباريق شاي أو قوري چاي، وقوري لفظ فارسي. إذا فتحوا الأباريق ترى تخثر ورق (بتل) الشاي تتزاحم فيما بينها حتى إذا فتحت ثغورها حان قطاف استكانه. مذاق يمس مجسة الذوق تتلاعب نكهته خشية انتهاءه ليقول أحدهم؛
شمدريني العشك
لو فاض لازم حار
مثل الچاي
إذا مو نار ما يخدر
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |