الاستشراق بين الحياد والانحياز هو مجهود واقع معرفي عند الدارسين، وله عمق تفاصيل عبر القرون والسنين. وليس هو على شاكلة واحدة فله تصنيف تختلف دوافعه ومآلاته، بعضه وهو كثير كان خادما لسياسة تكتنفها مطامع وأهداف غير نزيهة، وغيره غرضه اِستكشاف مجرد على مخزون تراث شعوب عديده. ولهذا الاستشراق تتجاذبه توجهات سلبية وإيجابية عند مُحلليه؛ فهنالك نافع يضيف قيمة ثقافية، وآخر يثير شبهات وتدليس معلومات تبذر في الأفهام سلبية. وكذلك فيه مكشوف وواضح، وأخر ضبابي تُدس فيها أفكار ومعاني مرادها أن ترى الأمور بعدسات المستشرقين. كُتب الاستشراق كثيرة بعضها بلغات كاتبيها وأُخرى بالعربية، وبالمثل حدثت الترجمات لهذه الكُتب وهي وافرة بالمكتبة العربية، وكُتب أخرى كتبها عرب ومسلمون تخصصوا في ظاهرة الاستشراق.
كتاب الاستشراق والفقه الإسلامي لمحمد الدسوقي قال؛ "يُعد الاستشراق ظاهرة فريدة في تاريخ الفكر الإنساني، فلم يُعهد أن طوائف متباينة العقائد والثقافات والجنسيات أطبقت كلمتها على دراسة دين لا تؤمن به كما فعل المستشرقون". والاستشراق كذلك أسلوب خطاب يحمل فكر مدعوم من مؤسسات وبحوث علمية ومذاهب فكرية وبيروقراطيات إستعمارية.
قيل عن نشأت الاستشراق أنه كان يد أهل الكتاب الدارسين للإسلام كان منهم يوحنا الدمشقي (676-749)م، ويحيى بن عدي(894-975)م، وعبدالمسيح الكندي الذي عاش عصر المأمون الحاكم العباسي. ومن الاستشراق ما حصل إبان ازدهار الأندلس في العلوم مما تطلب تعلم اللغة العربية وترجمة تلك المعارف.
وهنالك رواد لهم بواكير استشراق من أمثال؛ ريموند لول (1235-1314) م، وهو فرنسي رحالة ومنُصر تعلم العربية والقرآن، طاف بالشمال الأفريقي ومات هناك، وصفه المستشرق الفرنسي إرنست رينان(1823-1892)م؛ "كان هدم الإسلام حلم حياته" ذكر ذلك كتاب المستشرقون للعقيقي. ريموند كان له أثر في إقناع ملك أرغون (شمال أسبانيا) سنة 1276م بإنشاء مدرسة لتعليم العربية للرهبان، وأشرف على هذا بنفسه، ثم أسس معهد الدراسات الإسلامية في مدريد، وبذل جهده كذلك عند الكنيسة والحكام بتعليم اللغات الشرقية التي أقرها البابا لاحقا في مؤتمر فينا 1312م، وذلك بإنشاء كراسي في خمسة جامعات غربية لدراسة اللغات الشرقية العربية والعبرية والكلدانية.
ورمز أخر للمستشرقين هو القس الأمريكي زويمر (1867-1952)م مؤسس الإرسالية الأمريكية في الخليج العربي الذي صنف كتابه عن ريموند أول مبشر بين المسلمين حيث قال؛ كلّ المستشرقين مدينون لريموند.
المستشرقون درسوا اللغة العربية والقرآن والسنة النبوية وما كتبه علماء الإسلام، أتخذوا الترحال وسيلة، وخالطوا المجتمعات لمعرفة عقائدهم وأعرافهم ولبسوا ثيابهم وتسموا بأسمائهم، بل تنكر بعضهم بأنهم مسلمين فعل ذلك الهولندي هورجينية سنوك(1857-1936)م لأهداف خاصة وتسمى عبدالغفار ذكر ذلك عبدالرحمن بدوي في موسوعة المستشرقين.
وهنالك من أسلم بقناعة كحال الفرنسي دينيه (1861-1929)م، إذ أشهر إسلامه في الجزائر وتسمى ناصر الدين وحج وكتب عن الإسلام والحج إلى مكة كما أورده كتاب المستشرقون العقيقي.
الذين انحازوا من المستشرقين منهم من له نظرة استعلائية طالت كتاباته وفيها شبهات عقائدية وتشكيك بالوحي والسنة النبوية ومحاولة إضعاف فعالية اللغة العربية، وتفتين بين الأكثرية والأقلية وغيرها من ثعالبية. ومن هؤلاء تم ذكروهم سابقا كريموند وزويمر وهورجينيه، وتمتد القائمة لمن توظفوا في وزارت المستعمرات الخارجية والحربية كجينويول الهولندي (1866-1948)م الذي أهتم بعلم الحديث والفقه وهو مستشارا للبريطانيين والأمريكيين في تخطيط سياساتهما الموالية لإسرائيل ذكر ذلك إدورد سعيد في كتابه الاستشراق، والعقيقي في المستشرقون، وموسوعة المستشرقين عبدالرحمن بدوي، وكذلك وماسينون الفرنسي (1883-1962)م الذي طاف العالم الإسلامي ولبس الزي الأزهري لحضور الدروس، وتأثر بالحلاج وكتب عن التصوف. وكولان الفرنسي (1893-1979)م عمل في وزارة الخارجية والاستخبارات الفرنسية في المغرب، وريتشارد كمجيان وهو أرمني مولود عام 1933م في حلب، وهو محاضر جامعي ومستشار في خارجية إمريكا، وهرمان إيليس الإمريكي(1922-2006)م، المستشرق برنارد لويس(1916 -2018)م وهو من مواليد لندن، عمل أستاذا لدراسات الشرق الأوسط، ولهو جدلية وإثارات سلبية. وهذه الأسماء هي نزر يسير من أسماء المستشرقين ذوي الانحياز، وتواليهم لمن ينقطع، والجُدد منهم حملوا توجه لفهم ظواهر التدين والميول داخل مجتمعات العرب والمسلمين ورصد تحولاتها، وتكوين بنك معلومات، لتوظيفها في أهداف التعامل والاستغلال النفعي.
أما الاستشراق الذي يغلب عليه الحياد العلمي المجرد هنالك الفرنسيان ألفونس دينيه (1861-1929)م والطبيب موريس بوكاي(1920-1998)م صاحب كتاب التوارة والإنجيل والقرآن والعلم، والنمساوي ليوبولد فايس(1952-1992)م الذي أسلم وتسمى محمد أسد صاحب كتاب الطريق إلى مكة، والاسلام على مفترق طرق، والهولندي فنسنك(1882-1939)م الذي ترأس تأليف مع أخرين المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي ومفتاح كنوز السنة. والألماني مراد هوفمان(1931-2020)م صاحب كتاب الإسلام كبديل. ومن هؤلاء من له جهد استشراقي كشف الآلاف من نفائس المخطوطات العربية الاسلامية التي تم حفظها والعناية بها في مكتبات اوربا وامريكا، وتاريخيا بعضها مُشترى وكثيرها مسروق.
دائرة المعارف الاستشراقية هي بمثابة مؤلف جامع متنوع المعارف، تعددت لغاته بالانكليزية والفرنسية والالمانية وتُرجمت للعربية والأردية والتركية، وسميت بالعربي دائرة المعارف الإسلامية في أربعة مجلدات. أشترك فيها مستشرقون وغيرهم، ولها قيمة بحثيه لمن يدرس ظاهرة الاستشراق. هذا المؤلف طالته بحوث أكاديمية لنيل دراجات الدكتوراه بينت ما فيها من تصدع ومغالطة معرفية تخص القرآن والسنة وبعض ترجمات رواد المسلمون، وفيها أيضا غمط تكافؤ الشروح للمواضيع الأكثر اهمية مقابل صغيرها، وبالطبع هذا مرده لتنوع المستشرقين وخلفياتهم وأهدافهم. وهناك تآليف في المكتبه العربية عن الموسوعة فيها تحليل ونقد منها؛ كتاب د ابراهيم عوض عنوانه؛ أضاليل وأباطيل، والدكتور خالد القاسم في كتابه مفتريات وأخطاء.
التغول الاستشراقي ما خلا من بعض علماء وباحثون تُعد جهودهم العلمية نزيهة اقرب للتجرد، فكان أثرهم أن زادت عدد اللغات الشرقية التي تدرس في الغرب، وكذلك الاهتمام بالمخطوطات التي حُررت وتُرجمت وشُرحت بل تشكلت من البحوث تيارات ودارسين متعاطفين مع الشرق. والتراث الاستشراقي قديمه وحديثه مصدر ذَا قيمه للباحثين، ويحتاج دارسه أن يكون فطين.
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |