الوَعْيُ مسار لا ينتهي، هذا ملموس في الذات البشرية، يُبنى من الولادة إلى منتهى الحياة. العلم والمعرفة والتجربة، والاحتكاك مع الأخر، والسماع والمشاهدة، كلُّ هذه روافد لتنمية الوعي. قيل إن الوعي هو الحفظ والتقدير، والفهمُ وسلامةُ الإدراك، ومنها شعورُ الكائنِ الحي بما في نفسه وما يحيط به، وفقد الوعي هو وقوع في غيبوبة. العرب تقول لا وعْي عن ذلك الأمر أي لا تماسك دونه، أو ما لي عنه وَعْيٌ، أي بدٌّ، وأرتفع الوعي معناه حدث جلبة أصوات وضَّجَّة.
الوعي حفظ القلب الشيء وفهمه وقبوله، وهنالك فلان واع ويوجد أوعى منه أي أحفظ وأفهم كما في بيان الهدي النبوي"نَضَّرَ اللهُ امرأً سمِعَ منَّا شيئًا فبلَّغَهُ كما سمِعَهُ، فرُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى من سامِعٍ". والوعي منه الحسن والسيء مثل قوله تعالى"والله أعلم بما يوعون"ومعناها الإيعاء بما يجمعون في صدورهم من التكذيب والإثم أو يضمرون في قلوبهم من التكذيب. وأذن واعية هي التي تعي الحديث.
أما الوعي المفرط فهو طفح تفكير يُغرق، ويسبب لصاحبه الشقاء، ألمح ذلك أبن المعتز من شعراء العباسيين في القرن الثالث هجري قائلا؛
حلاوة الدنيا لجاهلها
ومرارة الدنيا لمن عقلا
لهذا إفراط الوعي أحيانا آفة نفسانية، ومرض يصيب الإدراك ويُطلق العقل لدواعي العمق واللانهاية، والسعي إلى الإحاطة بما هو موجود، والخوض في الماورائيات، والبحث في طبيعة الشيء وإلا لا شيء وسببيتها في الحياة، وهذا قد يكون نبش في حقيقة اللاملموس، وهو غير مأمون من الأهواء. أحيانا بعض من هؤلاء يتصدون مشهد منصات التواصل تدفعهم مصالح ورغبة سيطرة وتزييف ورسم ثقافة مجتمعية. هذا الإفراط في الإدراك يطاله توهان، وقد يُدخل الإنسان في اللاعودة وتضيع البوصلة والذات. الانفصال عن مثل هذا التأثر ضرورة حتمية وحصانة للعقل لينعم بناموس الوجود والتفكر والاستكشاف فيه، وتحفيز الفطرة له كما أرادها الخالق عَزَّ وجَلّ.
الثوابت العقائدية هي التي تحرر الإنسان وتجلب الطمأنينة والتوازن النفسي، وهي التي تبين الثنائيات المتباعدة، من موت وحياة، ووعي كلي أو غياب شيء عنه، مثل إعجازية خلق بصمة الإصبع التي ينفرد بها كلّ إنسان عن غيره. لهذا تثمين ما ينفرد به عقل الإنسان عن غيره من الكائنات يأتي بالسعادة كما يقول أرسطو "أن السعادة تتأسس على ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات، أي العقل والفكر". والعقل السليم طريق وسط فيه ضبط نفس، وبلوغ فضيلة.
دنيانا يكثر فيها المتلابسات، وتداخل الأزمات، وخلخلة ثوابت وولاءات. وقد يكون العاديون من الناس أكثر حظا من لُوثات ونيل براءة وسعادة. وهذا رأي فيلسوف اليونان سقراط أن الجهل جزءا لا يتجزأ من السعادة، كحال الاطفال ومن له جهل في المدلهمات.
ومثل هذا الكلام له وعليه بين نشدان وعي وجهل لا ينفع، وبمثله قول؛"أحد أسباب الشقاء الوعي المفرط"وهي منسوبه لدويسوفيسكي الروائي الروسي المُتوفى عام 1881م الذي عاش ملابسات ضمن قهر إبان الفترة القيصرية، ولذع بكثير نتاجه سوداوية الحياة.
الوعي يبقى ميزة أساسية للإنسان وخاصية عن سائر المخلوقات، والتفكّر والنظر والتدبّر عظمة تتجلى فيها قوة وقدرة الإنسان وهذا تكريم من الخالق عَزَّ وجَلّ ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾.
الوعي يُكَّمل الإنسان ويولّد حرقة للبذل والتغيير للأحسن ضمن وسائل ممكنة، والوعي لمحبي الأوطان أنهم لا يرفعوا قدر الذئاب التي تبحث عن فرائسها لإنه هذا طبع غريزي وأزلي فيها. إلا أن الذئاب معروف عنها أنها تحذر الراعي الحذق، وتهاب الرعية التي لا تفترق.
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |