"مصر التي في خاطري" كانت وستظل بعون الله مهد التنوير والوعي، مركز الإشعاع الثقافي والحضاري مع شقيقاتها العربيات، دمشق وبغداد وفاس ومكناس والخليج العربي وتونس الخضراء والسودان العميق.
التعليم كان وسيظل كالماء والهواء مثلما أطلق عليه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين هذه الرؤية، ومثلما أصبح بالفعل كالماء والهواء منذ أربعينيات القرن الماضي إلى أن هبت رياح الخصخصة وأصبحت التكلفة مع العائد هي مربط الفرس في العملية التعليمية برمتها.
مرت السنين وبدأت الحالة التعليمية، في مصر تحديدًا، أقل مما يجب من حيث القيمة، والدور والتأثير، فبدلاً من أن كنا نصدر المدرس والموجه والمناهج المعتبرة، أصبحنا بعد ثورة التحديث الكبرى في ذيل الأمم التي ترسل بعثاتها التعليمية، وتصدر تقنياتها الحديثة، وترعى العقول والفنون والآداب.
أصبحت أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية والدول المتقدمة هي المنبع والمركز والمصدر النوعي للمعلومات والتقنيات، وأصبحنا في ذيل المستهلكين للتكنولوجيا، والمستوردين غير المستورين للمعرفة.
قلنا: لا يهم، لا يهم أن نكون مستوردين ولسنا مصدرين، لا يهم أن نكون مستهلكين ولسنا منتجين، لكننا لم ندعي على أنفسنا بالباطل، لم نقل لا للجغرافيا، ولا للتاريخ، لم نرفض اللغة الأجنبية الثانية ولا فصول التقوية المدرسية، لم نلغ الماضي بجرة قلم، ولم نصادر مادة حيوية مؤثرة من أجل عيون التكنولوجيا الحديثة.
قبلنا التبعية، ولم نقبل العبودية، ووافقنا على أن نكون في ذيل الحضارات بعد أن كنا في المقدمة، لكننا لن نبارك إلغاء وزير التربية والتعليم الجديد للمواد النظرية التي ساهمت في تكوين الوعي الجمعي، والذاكرة الوطنية للأمة.
قلنا نعم للكليات العملية، ولا لـ"السناتر" ومراكز التقوية التي حلت محل المدارس، ولكننا لم نوافق على هدم المدارس، ولا إلغاء المناهج الدراسية الأساسية، بل طالبنا بعودة الحياة للتربية البدنية والرياضية التي أخرجت لنا أبطالاً أولمبيين على مدى التاريخ منذ عام 1920.
وافقنا على إدخال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في حياتنا، ليس للاستمتاع بالفئران الملونة والضفادع العشوائية الرقطاء وهي تسبح في أطباق الشوربة الساخنة، رفضنا وبشدة إلغاء حصص التربية الفنية التي أخرجت لنا فنانين تشكيليين ملء السمع والبصر أمثال جمال السجيني ومحمود مختار، والرسامين التاريخيين أمثال صلاح طاهر وغيره من المعاصرين المؤثرين مثل عز الدين نجيب، وعمالقة الجداريات وأبطال الثورات المتلاحقة.
لم نقل نعم لإلغاء المادة التي تحدد لنا موقعنا على خارطة العالم، ولا تلك التي تكشف عن ثرواتنا في باطن الأرض، أو تلك التي تساعدنا على إتقان اللغة الفرنسية التي اعتبرها سعادة الوزير الجديد من الكماليات، نحن نسعى لكي تعود مصر إلى مكانتها، رائدة وقادرة، مركزًا عربيًا للإشعاع، لا أن تتقوقع على ذاتيتها المفرطة، وانغلاقها الممتد، واحتفالياتها بإلغاء المهمش بدلاً من إعادته للحياة، وإقصاء الضروري بدلاً من تركه فريسة للنسيان.
كل المواد النظرية مهمة، وستظل التربية الدينية والوطنية والبدنية والفنية والموسيقية والجغرافيا والتاريخ واللغات الحية فرنسية أو ألمانية أو غيرها، ولابد من إعادتها مرة أخرى للحياة وإلا فعلى الدنيا السلام.
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |