عندما هلت الألفية الثانية برياحها غير المسالمة، وحين تسابق العلماء على إشهار أسلحة بحوثهم في وجه البشرية التي نجحت في كتابة تاريخ الكون، لكنها فشلت في صناعة تاريخ للمستقبل، لم يتصور أكثرنا تفاؤلا أو تشاؤما أنه سيأتي اليوم الذي يحارب فيه الإنسان نفسه، هو الباحث عن عمل يقطع رزقه بكلتا يديه، وهو الذي سيضع مصيره رهنا لصنيعته، وحرزا لنتائج تجاربه، وأيقونة يتندر بها وهو لا يدرك أنه قاب قوسين أو أدنى من البطالة الأبدية، والتعطل المصيري، والبحث الدائم عن الرزق دون جدوى.
أصبح تاريخ المستقبل على المحك، وجاء من يكتبه بديلا عن الإنسان، ويحدد ملامحه من قال قديما “لا يفل الحديد إلا الحديد”، ولأن الإنسان دم ولحم وشحم وروح وحياة لا حديد، فإنه لم يحقق ما كان يحققه في الماضي، ولأن “براقش” هي التي فعلتها بنفسها، فإن الذكاء الاصطناعي الذي هو صنيعة الإنسان سوف يحل مكان هذا الإنسان ربما في أدق المهن التي كان يعمل بها، وفي أكثر الفنون والعلوم دقة في التصنيع والإنتاج والخلق، وهو ما جعلني أتوقع يوما قريبا في المستقبل، وتقنية الـ “شات جي بي تي” تكتب السير الذاتية للمشاهير، وتتدخل في توجيه الشعراء والأدباء والنقاد نحو الوجهة الصحيحة للنقد والإبداع وكتابة التاريخ.
الذكاء الاصطناعي سيصبح سلاحا ذا حدين، أحدهما يبحث في حقيقة التفاصيل الصغيرة التي أدت إلى خروج الكون من رحم المجهول، والآخر يمارس كل ما كان يمكن أن تمارسه أرقى المخلوقات على وجه الأرض وهو الإنسان، في الطب وعلوم الفضاء وقيادة المركبات، والطائرات وإطلاق الصواريخ، وكتابة الرواية “بالتحريض” أو التوجيه البشري، وسياقة القطارات و “المترو” تحت وفوق الأرض، وإجراء العمليات الجراحية عن بُعد وعن قرب، وإبرام الاتفاقيات والعقود، والعمل في المصانع والمزارع والمعامل والمكتبات، كلها سوف تصبح بالتقنية، وكلها سوف يتلاعب بها الذكاء الاصطناعي وليس الذكاء الطبيعي.
من هنا لابد أن نوجه جامعاتنا لكي تكون أكثر يقظة من القادم الذي لا تُحمد عقباه، فالرياح التي تأتي عكس ما نشتهي أصبحت أقرب من حبل الوريد، وصار احتكاكها بسفينة نوح وشيكا لكي يعرف كل إنسان ما له وما عليه، ربما ننجو وربما تأخذنا الحيطة والحذر والتردد، وربما يأتي يوم لا نجد فيه من يقوم بتدريس علوم محددة، ولا من يتقدم لوظيفة للإنسان الآلي لكي يبت في أوراقه ويقول له: أنت تصلح، أو أنك غير صالح للعمل. هكذا تنتهي صلاحية الوجود التقليدي، ليحل مكانه الوجود الرقمي أو العالم الافتراضي، أو الأداء الأسرع والأطول عمرا من الإنسان.
الجامعات لابد لها أن تستعد، أن تبحث عن البدائل، أن تعيد اختراع العجلة، وأن تساوم بل وتراهن على أبنائها العلماء، وأن تدفع بهم في مقدمة الصفوف التي تدافع عن مصير البشرية بعد التقدم الرهيب، وعن حقوق الإنسان قبل أن تتعرض هذه الحقوق للخطر والضياع.
الجامعات مطالبة في هذا الوقت بالذات وأكثر من أي وقت مضى لكي تشحذ الهمم وتطور المعامل والتقنيات ومراكز البحث العلمي، وأن يكون هذا البحث متطابقا مع معطيات واحتياجات الواقع الراهن، وأن تكون النتائج، كل النتائج، مهيأة للتطبيق الفوري وليس للتأجيل إلى أجل غير مسمى.
البحث العلمي ثم البحث العلمي، هو الذي سيكتب لنا تاريخ المستقبل، وهو الذي سيحد من مخاطر الذكاء الاصطناعي، وهو الذي سيساعدنا على مواجهة تحديات الكون وصعوبة المناخ، واستحالة الحلحلة تحت ما هو تحت أيدينا حاليا من إمكانات وعوامل واستقطابات، والله المستعان.