العدد 5969
الأحد 16 فبراير 2025
الرئيس ترامب ومؤسسات الدولة العميقة
الأحد 16 فبراير 2025

العالم كله مندهش ومتحير في تفسير، أو حتى اكتشاف، ما وراء الكثير من التصريحات والقرارات العاصفة التي اتخذها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشكل متتال، منذ توليه السلطة في العشرين من الشهر الماضي، وسنتوقف، في محاولات فهمنا، عند واحد من هذه القرارات، على الرغم من أنه يبدو الأقل أهمية من بينها جميعا.
فبعد ثلاثة أيام فقط من توليه السلطة رسميا، أصدر الرئيس ترامب “أمرا تنفيذيا” يقضي برفع السرية عن ملفات الحكومة الأميركية المتصلة باغتيال الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي في العام 1963م، بعد مضيّ أكثر من 60 عاما على اغتياله وأخيه روبرت كينيدي. وصرح ترامب للصحافيين عند توقيعه هذا الأمر بأنه “سيتم الكشف عن كل شيء”. 
إن اغتيال الرئيس كينيدي يثير حتى اليوم  تكهنات لا حصر لها، بما فيها دور وكالة المخابرات المركزية الأميركية “C.I.A” في عملية الاغتيال، وتعود التكهنات كلها إلى ملابسات وتطورات فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ففي تلك الفترة تولى الشيوعيون السلطة في كوبا في العام 1959، وأصبح الأمين العام للحزب الشيوعي الكوبي فيديل كاسترو رئيس الوزراء ورئيس الدولة، وبادر في تطوير علاقات استراتيجية وعسكرية وثيقة بين بلاده والاتحاد السوفييتي بما يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة وأمنها القومي، وتشمل هذه العلاقات إقامة قواعد عسكرية روسية فوق الأراضي الكوبية المحاذية للأراضي الأميركية.
وفي العام 1960، وبتوصية من جهاز الـ “C.I.A”، قررت الحكومة الأميركية في عهد الرئيس دوايت أيزنهاور إعداد خطة لإسقاط الحكومة الكوبية، فقامت بتدريب وتسليح قوة من اللاجئين والمنفيين الكوبيين المعارضين للنظام الجديد. وفي العام 1961، بعد أقل من ثلاثة أشهر من تنصيب جون كينيدي رئيسا للولايات المتحدة، تم تنفيذ الخطة بموافقته، وإنزال قوة المعارضين على الأراضي الكوبية في “خليج الخنازير”، لكن القوة المهاجمة منيت بهزيمة سريعة على يد الجيش الكوبي، ما اعتُبر فشلا ذريعا للجهة المنظمة ولإدارة الرئيس جون كينيدي. وكان الرئيس كينيدي قد رفض تقديم دعم أميركي عسكري مباشر للقوة المهاجمة عندما بدأت تواجه إمكانية الانهزام على الأراضي الكوبية، على الرغم من مطالبة هيئة رؤساء الأركان. ولتغطية هذا الفشل طرح رؤساء الأركان المشتركة مشروعا سريا يُعرف باسم “عملية نورثوودز”  Northwoods  Operation في العام 1962، وكان هذا المشروع يهدف إلى تنفيذ هجمات على أهداف أميركية أو قتل مدنيين أميركيين ثم تحميل المسؤولية على كوبا؛ وذلك لتبرير تدخل عسكري أميركي هناك. رفض جون كينيدي الخطة بشكل قاطع، ولم يتم تنفيذها. 
وبعدها بأشهر، في العام التالي 1963 وفي دالاس بولاية تكساس، اغتيل الرئيس جون كينيدي عندما كان راكبا سيارة مكشوفة في موكبه الرئاسي مع زوجته جاكلين، وحاكم تكساس جون كونالي وزوجته، وقع الحادث بينما كانت السيارة تمر بالقرب من “مستودع الكتب المدرسية” في تكساس، أُطلقت ثلاث رصاصات، واحدة منها أصابت كينيدي في الرقبة وأخرى استقرت في الرأس، ما أدى إلى وفاته بعد فترة قصيرة في المستشفى.
وقد تم القبض على المشتبه بارتكابه الجريمة بعد ساعات من الاغتيال، شخص اسمه لي هارفي أوزوالد، جندي سابق في المارينز الأميركي، وكان يعرف بميوله الشيوعية. لي هارفي نفى أي مسؤولية، قائلًا “أنا مجرد كبش فداء”.
بعد يومين، أثناء نقله من السجن، وسط حراسة مشددة، قتله رجل يُدعى جاك روبي، صاحب ملهى ليلي في دالاس، ما أثار الشكوك بوجود مؤامرة.
كينيدي كان قد رفض مرتين اقتراح رؤساء الأركان المشتركة بالتدخل العسكري في كوبا كما ذكرنا، ورفض أيضا خطة أخرى لرؤساء الأركان المشتركة التي دعت إلى توجيه ضربات جوية واحتلال كوبا لمنع نشر الصواريخ السوفييتية فيها. واختار، بدلا من ذلك، الحصار البحري والمفاوضات، وتوصل إلى اتفاق مع الزعيم السوفييتي نيكيتا خورتشوف، حيث سحب السوفييت الصواريخ من كوبا مقابل تعهد أميركي بعدم غزو كوبا، إلى جانب سحب الصواريخ الأميركية من تركيا سرا. وبذلك حُلت “أزمة الصواريخ الروسية” في كوبا سلميا، ونجح جون كينيدي في تجنب مواجهة عسكرية مع الاتحاد السوفييتي، هذا القرار يُعتبر أحد أعظم إنجازات كينيدي الدبلوماسية. 
إن هذا النجاح، بالإضافة إلى نيته إنهاء الحرب في فيتنام، زادا من توتر علاقته مع المؤسسة العسكرية التي كانت تريد تصعيدًا عسكريًا، وبعبارة أخرى، فإن هذه المواقف والقرارات من الرئيس كينيدي أغضبت ولم تتفق مع مصالح مؤسستين من مؤسسات “الدولة العميقة” في الولايات المتحدة، وهما: الجيش وصناعة الأسلحة، فصُناع الأسلحة بشكل خاص يرون أن اشتعال الحروب والمواجهات العسكرية تعد فرصا لتوسيع نفوذهم وارتفاع أهميتهم وزيادة دخلهم، وبهذا الصدد كان سلف كينيدي، الرئيس دوايت أيزنهاور، قد حذر من “المجمع الصناعي العسكري” (التحالف بين الجيش وشركات السلاح) “الذي يدفع نحو الحروب لتحقيق مكاسب مالية وسياسية”.
لهذه الأسباب والتكهنات أصبحت الشكوك تحوم منذ البداية حول تورط محتمل للمجمع المذكور أو لجهاز الـ “C.I.A” أو أي جهات داخلية أخرى في جريمة الاغتيال، وعلى الرغم من المحاولات السابقة لم تثبت صحة هذه الشكوك والتكهنات، إلا أن ترامب يبدو أنه أصبح، في هذه الدورة، أكثر اقتناعا بها أو أكثر إصرارا على السعي لإثباتها ولو للمرة الأخيرة، فهذا الملف لا يزال أكثر الملفات إثارة لنظريات المؤامرة في التاريخ الأميركي.
وبعد خسارته لانتخابات العام 2020 أمام المرشح الديمقراطي جو بايدن، فقد تعرض ترامب إلى ملاحقات قانونية من قبل عدد من المؤسسات القضائية والدستورية للدولة، واتهامه بالتورط في جرائم وقضايا عديدة مثل: محاولة إلغاء نتائج انتخابات العام 2020، والتحريض على أحداث 6 يناير 2021 في مبنى الكابيتول، والاحتفاظ بوثائق حكومية سرية بعد انتهاء فترة رئاسته، ودفع أموال لشراء صمت ممثلة أفلام إباحية بشأن علاقة مزعومة معها، وغيرها من القضايا.
وبعد فوزه الكاسح والمدهش في الانتخابات الأخيرة، فقد دخل ترامب البيت الأبيض وهو يحمل على أكتافه نوايا الثأر والانتقام من الأفراد والجهات التي اتهمته ولاحقته، والإفراج عن الملفات قد يُؤدي إلى تأكيد الشكوك حول دور “CIA” أو “FBI” في التستر على جريمة اغتيال كينيدي، أو كشف تورط بعض الجهات الحكومية في الحادث.
ظاهريا، فإن قرار الرئيس أو أمره التنفيذي جاء ليؤكد التزامه بتنفيذ القانون الأميركي الذي أصدره الكونغرس في العام 1992 تحت عنوان “قانون سجلات اغتيال الرئيس كينيدي”، ونص على أن جميع السجلات المرتبطة بالاغتيال يجب أن يفرج عنها بحلول العام 2017، “ما لم يكن هناك سبب وطني قوي للحفاظ على سريتها”. وعندما حل العام 2017، كان ترامب رئيسا في دورته الأولى، إلا أنه لم يبد حماسا لتنفيذ القانون، ولم يتم الكشف عن كل المستندات المتعلقة بالجريمة، مع أن ترامب كان في تلك الفترة أيضا في مواجهة مع مؤسسات وأجهزة “الدولة العميقة”، مثل أجهزة المخابرات الأميركية “CIA” و “FBI” اللذين كان في تحد وصراع معهما، واعتبرهما جزءًا من “الدولة العميقة” التي تخفي حقائق مهمة. إن هذا السيناريو قد يكون وراء محاولتي الاغتيال اللتين تعرض لهما أثناء حملته الانتخابية الأخيرة، أخطرهما كانت الأولى التي وقعت في بنسلفانيا وكادت أن تودي بحياته بنفس الطريقة التي أودت بحياة جون كينيدي، حيث إن الرصاصة التي أطلقت عليه أخطأت إصابة رأسه بمسافة تقل عن بوصة واحدة فقط، وقد تم على الفور قتل الجاني في موقع الحادث.
وإذا نجا، مرة أخرى، من محاولات اغتياله وتصفيته في المستقبل، فإن ترامب سيدخل التاريخ كأكثر الرؤساء الأميركيين تحديا وتصديا لمؤسسات الدولة الخفية، وأكثرهم تجاوزا لخطوطها الحمراء، بالإضافة إلى كونه أكثرهم براعة في استخدام الضجيج، وأدوات المساومة والابتزاز، وأساليب المراوغة والتضليل والتضخيم والترهيب، ورفع الأسقف إلى أعلى الحدود، والابتعاد عن القوالب التقليدية والأصول الدبلوماسية في إدارة الصراعات السياسية والعلاقات الدولية لبلاده.

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية