العدد 5957
الثلاثاء 04 فبراير 2025
الفكر السياسي الشيعي في مواجهة التطورات الجيوسياسية الأخيرة في المنطقة (3 - 3)
الثلاثاء 04 فبراير 2025

رأينا في لقائنا أمس أنه على الرغم من انهيار الدولة الصفوية في إيران في العام 1736م، إلا أن الغالبية العظمى لسكان إيران ظلوا ينتمون للمذهب الشيعي الإمامي، وأن شيعة إيران صاروا هم الأكثر عددًا مقارنة بالشيعة في أي دولة مسلمة أخرى، وصاروا أيضا الأكثر تأثيرًا ومساهمة في تطور الفكر السياسي الشيعي. 
وقد كان لعدد من فقهاء الشيعة العرب مساهمات وازنة في تطور الفكر السياسي الشيعي في النصف الثاني من القرن الماضي، ونشير في هذه العجالة إلى علمين منهم فقط، كان لكل واحد منهما عطاء متميز ومختلف عن الآخر. المرجع الديني السيد محمد باقر الصدر، عراقي الجنسية ولبناني الأصل، مؤلف لعدة كتب تعد الأبرز في الفكر السياسي الشيعي، منها كتاب “فلسفتنا” وكتاب “اقتصادنا”، وكان من مؤيدي نظرية “ولاية الفقيه” ومن أبرز مؤسسي ومنظري أفكار حزب الدعوة الإسلامي، كما كان هو المرجع الوحيد الذي أفتى بحرمة الانتماء لحزب البعث، وقد أعدمه نظام صدام حسين في العام 1980 بتهمة العمالة والتخابر مع إيران.
الثاني هو المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله، لبناني الجنسية، من أعلام إصلاح التراث الشيعي، كان معارضًا لنظرية “ولاية الفقيه”، وله آراء حول الماركسية والرأسمالية ومفاهيم المواطنة والتعددية والحزبية والعمل السياسي والرقابة الشعبية والمعارضة، والموقف منها جميعًا في الفكر السياسي المعاصر، لقد كانت أفكار فضل الله منطلقة من فهم إسلامي معاصر في معالجته لمختلف القضايا في عالم الفكر والسياسة، مع حرصه على ربط العلاقة بين النص الديني ومقتضيات الواقع؛ ولذلك كله وجد نفسه في صراع مع سدنة الفكر الشيعي التقليدي. وقد أثرى فضل الله مكتبة الفكر السياسي الشيعي بأكثر من 25 مؤلفًا، وتوفي في العام 2010م.
أما المساهمة المدوية والإضافة الجديدة والخطيرة للفكر السياسي الشيعي فقد جاءت من إيران في منتصف القرن الماضي أيضًا، قدمها الإمام الخميني بإطلاقه “نظرية ولاية الفقيه” التي استنهضت الهوية المذهبية في ضمير قطاعات واسعة من الشيعة الإمامية في إيران وخارجها، والتي على أساسها أشعل الإمام الخميني الثورة الإسلامية في إيران وأطاح بالنظام الملكي فيها في العام 1979، وأقام على أنقاضه نظام حكم إسلامي شيعي إمامي يمكن وصفه بالنظام “الثيوقراطي” الذي أحدث أيضًا هزة سياسية كبرى في المنطقة.
‎وتؤكد لنا تجارب التاريخ أن الكيانات والأنظمة السياسية التي ترسي وتؤسس وجودها وبقاءها على أيديولوجيات أو معتقدات دينية تؤمن عادة بأن من بين مهامها وواجباتها توسيع رقعتها ونفوذها، وهداية وإنقاذ الآخرين، والسعي لنشر وبث وتصدير معتقداتها إلى خارج حدودها، على هذا الأساس انطلقت الفتوحات الإسلامية، وبهذا الهدف توسعت الدولة العثمانية، وللغرض نفسه شُنت الحروب الصليبية، وعلى هذه القاعدة تمددت الشيوعية عبر الاتحاد السوفيتي المقبور، ولم يشذ النظام الحاكم في إيران عن هذه القاعدة وهذا المسلك أو يحاول أن يخفيه ويضمره، بل إنه فور الإعلان عن قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية تم الإعلان وبكل صراحة ووضوح عن تبنيها لمشروع “تصدير الثورة”.
‎وتحقيقًا لهذا الهدف وضمن استراتيجية محكمة، تمكن النظام الحاكم في إيران من امتطاء الشعور المذهبي، واختراق بعض صفوف الشيعة العرب، وتشكيل تحالفات إقليمية مع عدد من الجماعات والقوى الشيعية، بالشكل الذي يؤدي إلى تقويض سيادة وسلطات الدول المعنية؛ وذلك بخلق قوى أو دول داخل الدول، ولكنها خارجة عن سيطرتها، مثل مجموعة الأحزاب والحشود والفرق المسلحة التي شكلت في العراق وسوريا، وحزب الله الذي تأسس في لبنان، والجماعات الحوثية اليمنية المسلحة، والتحالف معها، وأقحمت كل هذه المجموعات والتحالفات في سياق الصراعات الإقليمية والاصطفافات الطائفية التي بدأت تطفح على السطح، وأدت إلى تعقيد المشهد الجيوسياسي في المنطقة، وكانت بمثابة التمادي في الاستخفاف والاستهتار بسيادة الدول وكرامة شعوبها، والعبث بأمن المنطقة واستقرارها.
‎وبالإضافة إلى توظيف الأدوات الدينية والمذهبية، وعلى خلاف مواقف وسياسات الشاه تجاه القضايا العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ولغرض توسيع قنوات الاختراق واستكمال دوائر  الاستهداف في الوطن العربي، فقد تبنى النظام الحاكم في إيران منذ نجاح الثورة موقفا مناصرا للقضية الفلسطينية لم يسبق لمرجعية قم أن تبنته، فبرز كمدافع شرس عن هذه القضية، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل.
‎ثم بادر لاحقًا بتأسيس “فيلق القدس” وإعلان “يوم القدس العالمي” وتخصيص يوم الجمعة الأخير في شهر رمضان من كل عام للاحتفال بهذه المناسبة؛ وبذلك وجدنا النظام الحاكم في إيران يبرز في مقدمة الأطراف المعنية بالقضية الفلسطينية، والداعم الأكبر لحركة حماس التي نفذت عملية “طوفان الأقصى” وما نتج عنها من كوارث وتداعيات. 
‎وبما أن النظام الحاكم في إيران هو الراعي والمحرك والموجه والممول للحركات السياسية والحشود والجماعات المسلحة الشيعية في لبنان والعراق وسوريا واليمن، إلى جانب دعمه لحركة حماس السنية في غزة، فإن الضربات القاصمة التي تلقتها “حماس” وحزب الله، وتصفية قياداتهما والانكسارات والهزائم التي منيا بها في مواجهاتهما الأخيرة مع إسرائيل، بالإضافة إلى انهيار نظام بشار الأسد في سوريا، تمثل أكبر إخفاق وفشل لسياسات واستراتيجيات القيادات الدينية الحاكمة في إيران، وكذلك لقيادات هذه الحركات والجماعات.
‎غير أن الإخفاق الأعظم والفشل الأكبر للسياسات والاستراتيجيات التي أُلبِست الأقنعة والجلابيب الدينية للمذهب الشيعي الإمامي، تجلى فيما حدث في سوريا في شهر أكتوبر الماضي، فكما هو معروف كان النظام الإيراني قد تدخل بعمق في الشؤون الداخلية لسوريا منذ العام 2011م، عندما هب لنجدة ونصرة نظام بشار الأسد، الذي كان يترنح تحت أعاصير ما سمي بـ “الربيع العربي”، ولهذا الغرض فقد قام النظام الإيراني بتنظيم عملية استنفار وتعبئة عسكرية كبرى، وتجنيد لمقاتلين من دول مختلفة تجمعهم عقيدة مذهبية واحدة؛ وذلك للوقوف إلى جانب نظام ديكتاتوري يواجه ثورة شعبية وبدعوى حماية المراقد المقدسة عند الشيعة، وهي مراقد ظلت في سلام وحماية وأمان على الأراضي السورية تحظى باحترام وتقدير مختلف الطوائف والأطياف السورية لأكثر من ألف عام دون أن تتعرض لأي أذى.
‎وفي خطوات ثبت أنها تفتقر إلى الدراية والحكمة والكياسة، أرسل النظام الإيراني إلى ساحات القتال في سوريا أكثر من خمسة آلاف عنصر من فيلق القدس والحرس الثوري الإيراني، وزج في ميادين المعارك في سوريا بعشرات الآلاف من المقاتلين الشيعة، الذين ينتمون بالترتيب إلى العراق ولبنان وإيران وأفغانستان، على شكل جماعات ومليشيات مسلحة مثل: حزب الله اللبناني، وحزب الله العراقي، إلى جانب كتائب عصائب أهل الحق، وحركة النجباء، وفيلق بدر، وألوية “أبو الفضل العباس”، وكتائب سيد الشهداء من العراق، ولواء “فاطميون” المكون من أفغان شيعة، ولواء “زينبيون” المكون من باكستانيين شيعة، ولواء صعدة اليمني، وغيرها، كما تم تنظيم مجموعات قتالية من الشيعة والعلويين السوريين كل على حدة، وقد تجاوز عدد هذه التشكيلات القتالية أكثر من 12 يعملون جميعًا تحت إشراف الحرس الثوري الإيراني.
‎وقد أسفرت هذه الاستراتيجية عن تداعيات سلبية، ليس فقط على النظام الإيراني نفسه، بل أيضًا على المجتمعات الشيعية التي زُج بها في هذا الصراع، ما أدى إلى استنزاف الموارد المالية والبشرية وإثارة مشاعر الإحباط والاستياء. كما أدت مشاركة الجماعات المسلحة ذات الطابع المذهبي إلى تصاعد التوترات الطائفية في المنطقة، وأثارت تحفظات حتى داخل الأوساط الشيعية العربية بشأن الدور الذي لعبته هذه الفصائل في النزاع السوري والأحداث الأخيرة في لبنان.
إن التجارب السياسية الحديثة أثبتت أن رجال الدين الإسلاميين الذين دخلوا معترك السياسة، سواء من التيارات السنية أو الشيعية، واجهوا تحديات كبيرة في إدارة الحكم وتحقيق الاستقرار. وإن الحكمة تستدعي الفصل بين الدين والسياسة، بحيث يبقى الدين عامل توحيد وهداية بعيدًا عن النزاعات السياسية والمصالح الفئوية، فكما أن للدين علماءه الأجلاء الذين يصونون تعاليمه، فإن للسياسة رجالها القادرين على تحمل أعبائها والتعامل مع تعقيداتها بمهارة وكفاءة.

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .