تلقيت الكثير من الإشادات والملاحظات حول المقال الذي نشرته الأسبوع الماضي بشأن “الفجوة المعرفية” بيننا كعرب ومسلمين من جهة، واليهود والإسرائليين من الجهة الأخرى، وأشرت فيه إلى المبادرات والجهود التي يبذلها الإسرائيليون لسد هذه الفجوة لصالحهم بتكثيف اهتمامهم بتعلم اللغة العربية ودراسة الثقافة والتراث العربي والإسلامي في إسرائيل، وذلك على خلاف تعاطينا مع هذه الإشكالية.
أحد القراء الكرام أثار في ملاحظته تساؤلًا أكثر أهمية: ماذا عن “الفجوة المعرفية” الفاصلة بيننا نحن الخليجيين العرب وبين جيراننا الإيرانيين؟ وتجاوبًا مع هذا التساؤل جاء عنوان هذا المقال.
إن كل واحد منا يدرك بأن ثمة روابط ووشائج كثيرة تجمعنا نحن العرب الخليجيين بجيراننا الإيرانيين أبرزها وحدة أسس المعتقد، وعمق الصلات التاريخية، إلى جانب الجوار الأزلي الذي يمتد إلى قرون وقرون، ويغطي مساحات جغرافية وحضارية وإنسانية واسعة، ولكن مع كل ذلك، فإن علاقاتنا بالإيرانيين كانت منذ البداية متوترة وفي غاية الحساسية؛ نظرًا للخلفيات والأبعاد التاريخية والإسقاطات المذهبية، وظلت هذه العلاقات تشهد تصدعًا متزايدًا مع تعاقب الأيام ومر السنين وعلى مدى العقود الماضية، وأخذت تنحدر إلى المزيد من التدهور والجفاء، وأصبح يشوبها الكثير من التخوف والشك والريبة المتبادلة، ما أدى إلى عرقلة التقدم وزعزعة الأمن والاستقرار في منطقتنا.
إن العلاقات بين الدول تُبنى على الثقة والفهم المتبادل، وليس على الحدود والمصالح المشتركة فقط، وحين يسود الشك والجهل تصبح العلاقات بين الشعوب والدول أكثر قابلية للتشنج، من هذه القاعدة فإن واقع علاقاتنا المرتبكة مع إيران راجع، إلى حد كبير، إلى عدم اهتمام أي منا بفهم ومعرفة الآخر؛ ما أدى إلى انزلاقنا إلى حالة من الجهل ببعضنا البعض، وهي حالة تولد بالضرورة العزلة وسوء الفهم، وتقود إلى الاختلافات والصراعات كما حصل وكما هو حاصل الآن، وبالفعل فنحن عرب الخليج الأكثر قربًا جغرافيًا بإيران لا نعرف الكثير عنها وعن الشخصية الإيرانية وتراثها وخصائصها، والعكس صحيح أيضًا.
وحتى لا نُتهم بتبرئة أنفسنا والتحامل على الغير فإننا سنبدأ بالإقرار والاعتراف بتقصيرنا كعرب عن محاولات مد جسور التفهم والتفاهم مع جيراننا الإيرانيين، والتعرف بشكل أكثر وأفضل على الشخصية الإيرانية وخصائصها، وقد أهملنا الاهتمام بالوسائل والآليات التي تمكننا من تحقيق ذلك، فأين مراكز الدراسات والبحوث الخليجية أو العربية المتخصصة بالشؤون الإيرانية تاريخًا وثقافة وتراثًا؟ وأين البعثات والمنح الدراسية المخصصة للدراسات الفارسية؟ وأين نتاجنا الفكري من الكتب والدراسات وغيرها من الأدوات الثقافية والفنية المتعلقة بالقضايا التي تهم علاقاتنا بهم؟ وكم عدد الخليجيين الحاصلين علي درجة الدكتوراه في أي جانب من جوانب الشأن الإيراني؟ وكم عدد الصحف ووسائل التواصل والمواقع الإلكترونية والمحطات الإذاعية والتلفزيونية العربية الموجهة للإيرانيين؟ وأين معاهد تعليم اللغة الفارسية وعلومها؟ وغيرها من الوسائل والأدوات. ومن المفارقات العجيبة في هذا السياق أن الخليجيين المنحدرين من أصول إيرانية إلى جانب “الحولة” يتجنبون إظهار معرفتهم باللغة الفارسية ويضطرون إلى إنكارها خوفًا من التشكيك في ولائهم وانتمائهم الوطني، وتجنبًا من وصمهم بالكسروية أو المجوسية أو وصفهم بـ “الطابور الخامس”.
إن ملف العلاقات العربية الإيرانية مفعم بالأحداث والإشكاليات، ومثقل بالمخلفات والترسبات التاريخية التي ما تزال تلقي بإسقاطاتها وظلالها الكثيفة على مجمل ومختلف مسارات هذه العلاقات في أيامنا هذه، وتترك بشكل خاص آثارها في عمق النفسية أو الشخصية الإيرانية التي لا تقبل بطبيعتها وموروثها الاعتراف بالهزيمة، ولا باندثار وتعاقب الحضارات والدول، وهي تظل تبحث عن الأعذار والمبررات للهزيمة التي منيت بها الإمبراطورية الفارسية قبل أكثر من 1400 عام، دون الأخذ في الاعتبار أن ذلك شأن وديدن سائر الإمبراطوريات والأمم، وهنا يجدر تأكيد أن استنهاض الماضي واستخدام التاريخ لتبرير الإخفاق وللتعويض عن فشل الحاضر سمة يشترك فيها الإيرانيون والعرب، مع ذلك فإن جيراننا الإيرانيين يتفوقون علينا في هذا الجانب ويعشقون العودة في ذهنيتهم إلى نهاية الإمبراطورية الفارسية، التي احتفل شاه إيران في العام 1971م بمرور 2500 سنة على تأسيسها، فيتهمون العرب بمحاولة مسخ هويتهم الوطنية، ويحملونهم مسؤولية انهيار الدولة الساسانية في القرن السابع الميلادي بعد أن دام حكمها 416 عاما.
في مقابل ذلك، فإن العرب يشتكون من تعالي الإيرانيين وحقدهم وكراهيتهم لهم، التي عبر عنها بكل وضوح الكثير من كبار مفكريهم على رأسهم وأكبرهم الأديب والشاعر والمؤرخ فردوسي الذي كتب في كتابه المشهور “الشاهنامه”، وهو المصدر والمنبع والمؤصل للقومية الفارسية، قصيدة جاء فيها: “كيف نسمح لهذا العربي آكل الجراد الذي يشرب ويستحم بأبوال الإبل أن يأتي إلى هنا وباسم الفتح ليقضي على عرش كسرى”، وعلى هذا النهج جرى للأسف الشديد تأسيس الوعي لدى بعض قطاعات المجتمع الإيراني، ولا يمكننا أن ننكر في هذا المجال أن لبعض مفكري العرب أيضًا دورا مشهودا في تأجيج مشاعر العداء والبغضاء ضد الإيرانيين، والنتيجة كراهية متبادلة تستخدم في إشعال الأزمات والفتن بين الطرفين، وإشكالية أوجدت مساحة واسعة وعميقة من سوء الفهم التي تتطلب من الطرفين السعي والعمل على ردمها.
وبعيدًا عن العواطف والانفعالات فإن للتاريخ كلمة وللحقيقة موقفا، وهو أن المسلمين العرب لم يكونوا مسؤولين عن انهيار الإمبراطورية الفارسية أو قادرين وقتها على فعل ذلك، فالمعروف والمتفق عليه دون جدال أن الممالك والإمبراطوريات تنهار بسبب العوامل الداخلية، هكذا كان حال كل الإمبراطوريات الغابرة، وحال الاتحاد السوفييتي عندما انهار في عصرنا الحاضر. والإمبراطورية الفارسية عانت من الضعف والتآكل الداخلي الناتج عن الثورات والمؤامرات والصراعات التي كانت تنخر في عظامها، إلى جانب أن الدولة الساسانية صارت مرهقة ومنهكة نتيجة للهزائم التي منيت بها في تلك الفترة على يد الإمبراطورية البيزنطية بقيادة الإمبراطور هرقل، ففي العقود الطويلة التي سبقت الفتح الإسلامي، استطاع البيزنطيون الانتصار على الساسانيين في الحرب التي دارت بينهما من العام 572 حتى العام 591 م، والتي تحالف البيزنطيون فيها مع الأمير الساساني المنفي خسرو الثاني، ومكّنوه من استعادة عرشه من يد القائد العسكري “بهرام جوبين”. إضافة إلى ذلك فقد ضعف المحرك الروحي للإمبراطورية عندما خفت عنفوان “الزرادشتية” أو “المجوسية” كما نسميها، وهي الديانة الرسمية للإمبراطورية الفارسية بعد أن اختلطت بنظام الطبقات الساساني وأصبحت تقدم نفسها كعقيدة تلبي احتياجات النبلاء.
لذلك كله، وعندما بزغ نور الإسلام كانت الإمبراطورية الفارسية تلفظ أنفاسها الأخيرة، وكان الفتح الإسلامي لإيران في العام 642م بمثابة “رصاصة الرحمة” لإمبراطورية مريضة كانت تنازع سكرات الموت.
ولو أردنا اليوم استنهاض الخلفيات التاريخية وإسقاطها في حلبة العلاقات العربية الإيرانية، لوجدنا أن الفرس هم أول من بدأ الغزو والاعتداء على العرب وأراضيهم عندما قام الملك قوروش في العام 542 ق.م بغزو وإخضاع بلاد الشام والعراق، وبعده واصل ابنه الغزو وتمكن من وضع مصر تحت السيطرة الفارسية، وفي العام 370م، أي قبل حوالي 300 سنة من الفتح الإسلامي لإيران، قامت جيوش الملك سابور الثاني باقتحام مدينة القطيف (الخط آنذاك) ثم مدينة الإحساء (هجر) وبعدها توغلت في أعماق الجزيرة العربية، وبأمر من الملك سابور تم قتل وسفك دماء الآلاف من العرب، والتنكيل والتمثيل بهم بقطع أكتافهم، وكان لشناعة هذه المثلة أثر سيئ في نفوسهم، ولذلك فقد لقبوه بـ “سابور ذي الأكتاف”.
ولضيق المساحة سنكتفي بالتوقف عند هذا المنعطف التاريخي في علاقاتنا بجيراننا الإيرانيين، ولن نتمكن من المرور عبر المنعطفات والمحطات الأخرى بما في ذلك إسقاطات الثورة الإيرانية والحرب العراقية الإيرانية، وسنكتفي بالدعوة إلى بذل جهود مشتركة للخروج من شرنقة الخلافات التاريخية والتوقف عن استدعاء مآسي ومرارات الماضي، فلن يستطيع أي منا إزالة الآخر أو السيطرة عليه، فزمن السيطرة قد ولى واندثر.