إن تخلي أحمد الشرع، القائد الأعلى لهيئة تحرير الشام عن لقب “أبو محمد الجولاني” وعودته إلى اسمه الحقيقي، وتحوله من إرهابي مطارد إلى زعيم سياسي شرعي، لا يعد حدثا جديدا أو شاذا في تاريخ السياسة والصراعات والعلاقات الدولية، فتغير الأوضاع والظروف السياسية والميدانية، والتحولات التي قد تطرأ على تفكير وتوجهات الشخصيات السياسية والعسكرية نتيجة تغير موازين القوى على الأرض، أو بناء على مصالح الأطراف الإقليمية والدولية أمر غير مستبعد ولا يدعو إلى الدهشة والاستغراب.
وفي الواقع، فإن مثل هذا التحول أصبح الآن أكثر سهولة ويسرا من ذي قبل؛ بسبب تطور وتوسع الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام بمختلف أدواتها ومنصاتها وأساليبها في تشكيل ورسم وتلميع صورة الشخصيات التي يراد تهيئة الرأي العام لقبولها في شكلها وردائها الجديد، إن سهولة تغير مواقف الدول والمجتمعات تجاه شخصيات من هذا النوع بناء على مصالحها، تفرض طرح التساؤلات حول تعريف الشرعية وكيف تبنى، وهل هي مسألة مبدئية أم ظرفية؟ وفي كل الأحوال، فإن السياسة والصراعات والحروب لم تعد تعرف شيئا اسمه مبادئ أو قيم، ثم إن التغيير والتحول يعد من بين أهم مرتكزات السياسة والدبلوماسية، وفي أول درس من دروس العلوم السياسية يتعلم الطالب أن “الشيء الذي لا يتغير هو التغيير نفسه”.
وفي التاريخ الحديث، هناك أمثلة على شخصيات اعتبرت إرهابية في مرحلة معينة، ثم أعيد تأطيرها كـأبطال وقادة شرعيين، عندما اقتضت الظروف والمصالح ذلك، وسوف نحاول أن نتطرق إلى بعض منها.
لنبدأ بأحمد الشرع، الذي كان قد انضم إلى تنظيم “القاعدة” الإرهابي في العراق كواحد من قوادها في العام 2003 بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق، وتلقب بـ “أبو محمد الجولاني” كما هي عادة باقي قادة “القاعدة”، وأصبح الجولاني في تلك الفترة إرهابيا متهما بارتكاب العديد من الجرائم الإرهابية ومطلوبا للعدالة، وبعد قضاء خمس سنوات في السجون العراقية عاد إلى سوريا ليقاتل نظام بشار الأسد، ولهذا الغرض أسس “جبهة النصرة” التي أعلنت فور تأسيسها الولاء لتنظيم القاعدة، ونفذت تحت قيادة الجولاني هجمات انتحارية إرهابية ومجازر وعمليات اختطاف وقتل استهدفت مدنيين.
وفي العام 2016 أعلن الجولاني فك ارتباطه بـ “القاعدة”، والعودة إلى اسمه الحقيقي وهو أحمد الشرع، واصبح اسم جبهة النصرة “هيئة تحرير الشام”، ومع ذلك ظلت هيئة تحرير الشام مصنفة “إرهابية” في الأمم المتحدة والولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول أخرى، وظل اسم الجولاني مدرجا على القائمة الأميركية للمطلوبين ومصنفا كإرهابي عالمي، ورصدت الولايات المتحدة مكافأة قدرها 10 ملايين دولار لمن يدلي بأية معلومات تؤدي إلى تحديد موقع وجوده وإلقاء القبض عليه، وقد سحب هذا العرض بعد أن أصبح الجولاني رئيسا للنظام الحاكم في سوريا فور الإطاحة ببشار الأسد. واليوم، فإن مندوبي مختلف الدول والمنظمات الدولية تتوافد على دمشق لمقابلته؛ وهي حالة تعكس قبولا دوليا أو مصلحيا بوجوده كجزء من حل سياسي للأزمة السورية.
وقلنا إن في التاريخ الحديث أمثلة على شخصيات اعتبرت إرهابية في مرحلة معينة، ثم أعيد الاعتبار لها وأعيد تأطيرها كأبطال وكقادة شرعيين عندما اقتضت الظروف والمصالح ذلك. مناحيم بيغن واحد من ألمع هذه الأمثلة، كان بيغن أحد القادة البارزين في الحركة الصهيونية وزعيم تنظيم “إرغون” العسكري الإرهابي في فترة الانتداب البريطاني على فلسطين. وتحت قيادة بيغن نفذ تنظيم “إرغون” عمليات عسكرية إرهابية ضد البريطانيين والعرب في فلسطين، من أبرزها تفجير فندق الملك داود في العام 1946، الذي أسفر عن مقتل 91 شخصا، بينهم مدنيون. وقد عرف عن بيغن استهدافه للمدنيين والإمعان في قتل وتهجير السكان الفلسطينيين، بما في ذلك ارتكابه مجزرة دير ياسين (1948)، التي أسهمت في نزوح واسع للفلسطينيين.
مع ذلك، وربما بسبب ذلك، أصبح بيغن رئيسا لمجلس الوزراء الإسرائيلي بين العامين 1977 و1983، وبعد عام من توليه السلطة وقع “اتفاقية كامب ديفيد” للسلام مع الرئيس المصري أنور السادات وبرعاية الرئيس الأميركي جيمي كارتر. وكانت أول اتفاقية سلام بين إسرائيل ودولة عربية، وأنهت حالة الحرب مع مصر، واعتبرت خطوة تاريخية وشجاعة على طريق السلام في المنطقة، وتضمنت موافقة بيغن على الانسحاب من سيناء وإعادتها إلى مصر بعد تفكيك وإزالة المستوطنات الإسرائيلية منها.
وعلى إثر توقيع هذه الاتفاقية، منح بيغن “جائزة نوبل للسلام” مناصفة مع الرئيس أنور السادات، الذي كان بدوره متهما بالمشاركة في عملية إرهابية في فترة حكم الملك فاروق لمصر، بعد اتهامه في العام 1946 بالمشاركة في عملية اغتيال أمين عثمان وزير المالية في حكومة الوفد الذي كان مؤيدا للوجود البريطاني في مصر. وكان أحد أصدقاء السادات المقربين قد أطلق الرصاص على الوزير الذي توفي لاحقا متأثرا بجراحه، واتهم السادات بالتورط في تخطيط وتنظيم عملية الاغتيال، فألقي القبض عليه بعد الحادث واحتجز لفترة طويلة خلال التحقيقات، وقد انتخب أنور السادات رئيسا لجمهورية مصر العربية في العام 1970 واغتيل في واحدة من أسوأ العمليات الإرهابية في العام 1981.
شخصية سياسية أخرى نالت “جائزة نوبل للسلام” بعد أن كانت توصم بالضلوع في الإرهاب كان الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، واسمه الحقيقي محمد عبدالرؤوف عرفات، مؤسس حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، التي قادها إلى أن أصبحت الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في المحافل الدولية.
وقد حظي عرفات باحترام وتقدير العديد من الشعوب والأمم التي اعتبرته مناضلا من أجل الحرية والعدالة، في حين وضعته بعض الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ضمن قائمة الإرهابيين بعد أن اتهمته بالتورط في دعم عمليات إرهابية مسلحة ضد إسرائيل في الستينات والسبعينات، بما في ذلك عمليات اختطاف طائرات، إلا أن مسيرته شهدت تحولا جذريا عندما قاد الجهود الفلسطينية نحو المفاوضات السياسية التي أدت في العام 1993، إلى توقيعه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين “اتفاقية أوسلو”، التي كانت تهدف إلى تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين ووضع أسس لإنشاء دولة فلسطينية.
ونتيجة لهذه الاتفاقية، حصل عرفات على جائزة نوبل للسلام في العام 1994 بالمشاركة مع رابين وشمعون بيريز، تقديرا لجهودهم في تحقيق خطوة أولى نحو السلام، الذي لم يتحقق حتى الآن، كما أن إسحاق رابين دفع ثمن توقيعه لتلك الاتفاقية، وتم اغتياله في العام التالي في عملية إرهابية نفذها أحد المتطرفين الصهاينة الإسرائيليين، إضافة إلى ذلك، وبعد عشر سنوات من توقيعه الاتفاقية، اغتيل ياسر عرفات بالسم كما يعتقد كثيرون، على الرغم من أن الأطباء الفرنسيين أكدوا أن الوفاة كانت نتيجة نزيف دماغي.
ويبدو أن كل أو معظم الذين يوصمون ويتهمون في بداية مسيرتهم بالإرهاب من الساسة والقادة ينتهون بالحصول على تبجيل وتقدير العالم لهم، ويفوزون بجائزة نوبل للسلام بعد أن يخلعوا عنهم رداء العنف والإرهاب، ومن بينهم نيلسون مانديلا السياسي المناهض لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، الذي كان قد شارك في تأسيس “منظمة رمح الأمة” العسكرية المتشددة، وألقي القبض عليه واتهم بالاعتداء على أهداف حكومية، وأدين بالتخريب والتآمر لقلب نظام الحكم، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة، قضى منها 27 عاما في السجن، وبعد الإفراج عنه انتخب رئيسا لجمهورية جنوب إفريقيا ومنح جائزة نوبل للسلام في العام 1993، إلى جانب 63 من الجوائز والأوسمة والأطواق والنياشين والميداليات والشهادات والقلائد من مختلف الدول والمنظمات الدولية المرموقة، منها جائزة الأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان.
وقائمة أسماء مثل هذه الشخصيات طويلة، وقد تشمل قريبا اسم أحمد الشرع أو “أبو محمد الجولاني”.