العدد 5934
الأحد 12 يناير 2025
banner
الفجوة المعرفية بيننا وبينهم
الأحد 12 يناير 2025

ما حرّكني ودفعني إلى كتابة هذا المقال تقارير اطّلعت عليها مؤخرًا عن مهام وأنشطة وأعداد مؤسسات ومراكز البحوث والدراسات العربية والإسلامية في إسرائيل، وأقسام ودوائر دراسات التراث والثقافة والحضارة واللغة العربية في المعاهد والجامعات الإسرائيلية؛ وسيجد من يرغب في الاطلاع على أعدادها وأنشطتها الرجوع إلى مواقع وآليات البحث الإلكتروني، وسنركز في هذه الوقفة على محاولة التعرف على غايات ودوافع هذا الاهتمام اللافت من قبل الإسرائيليين  باللغة والثقافة والحضارة العربية والإسلامية.
فالواضح أن الإسرائيليين مقتنعون بأن اللغة، كما هو معروف، هي المفتاح أو الجسر الذي يُشترط عبوره لمعرفة تاريخ وحضارة وثقافة الأمم بشكل أفضل، ومن أبرز مظاهر هذه القناعة وهذا الاهتمام، ومن أعلى المستويات، كان مصادقة البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) قبل بضع سنوات على قانون جديد يقضي بإنشاء مجمع أو “معهد اللغة العربية” في حيفا، الذي أسس على غرار معهد اللغة العبرية؛ ليكون مؤسسة عليا لعلوم وأبحاث اللغة العربية في إسرائيل، وقد انتخب رئيسًا للمعهد الأستاذ الدكتور محمود غنايم، أستاذ الأدب العربي الحديث في جامعة تل أبيب والكلية العربية للتربية في حيفا. 
وفي العامين الأخيرين بدأ الاهتمام بتعليم اللغة العربية في إسرائيل يتزايد وحتى على المستوى الرسمي، ففي القدس المحتلة كثفت “البلدية” التابعة للاحتلال جهودها في تعليم اللغة العربية للطلبة اليهود، وأطلقت في نهاية أغسطس 2022 منهاجا جديدا يسمى “أهلا” لتعليم التلاميذ اللغة العربية في المدارس اليهودية بالقدس. وهو تطور يعكس أيضًا تزايد الاعتراف بأهمية اللغة العربية في السياق الإسرائيلي. إضافة إلى ذلك فإن القانون الإسرائيلي يسمح باستخدام اللغة العربية داخل الكنيست مما يؤكد على حضورها الرسمي في الحياة السياسية.
هذا التوجه أو هذا النهج يعكس رؤية نفتقر إليها في العالم العربي والإسلامي، وهي رؤية براغماتية تهدف إلى تعزيز التفوق الإسرائيلي من خلال الإلمام بمفاتيح القوة والضعف لدى الطرف الآخر.
وفي الحقيقة، فإن غالبية المجتمع الإسرائيلي يرحب ويشجع هذا التوجه والاهتمام باللغة والثقافة العربية من منطلقين مختلفين؛ الأول ولعله الأبرز، وهو المنطلق الأمني والاستخباراتي، ومن زاوية “اعرف عدوك” فبالتعرف على العرب وثقافتهم بشكل أفضل وأوسع تسهل عمليات اختراقهم والنفاذ والتغلغل بين صفوفهم عند الحاجة، وهو توجه مرتكز على قاعدة “من تعلم لغة قوم أمن شرهم”. ولعل هذا النهج هو أحد أسباب تفوقهم علينا وقدرتهم على هزيمتنا.
والمنطلق الثاني مبني على أسس يمكن وصفها بالأسس العاطفية، ونابع من تعلق شريحتين هامتين من شرائح المجتمع الإسرائيلي باللغة والثقافة العربية؛ الأولى هي شريحة العرب الفلسطينيين الذين بقوا في فلسطين بعد نكبة 1948 وأصبحوا مواطنين إسرائيليين، وقد بلغت نسبتهم الآن أكثر من 20 % من عدد سكان إسرائيل، ولا يشمل ذلك عرب الضفة الغربية وغزة، وهم يعتبرون اللغة العربية لغتهم الأم، والشريحة الثانية مكونة من  نسبة مماثلة أو مقاربة، وهي شريحة اليهود الإسرائيليين الشرقيين الذين كانوا يعيشون في بلدان ومجتمعات عربية قبل هجرتهم إلى إسرائيل، مثل اليهود المغاربة والمصريين والعراقيين واليمنيين وغيرهم، إضافة إلى ذلك فإن ما نسبته 6 % من باقي السكان اليهود المهاجرين من أوروبا وروسيا وغيرها الذين تعلموا اللغة العربية ويتقنونها.
إن هذا التباين بين الدوافع الأمنية والعاطفية يعكس تعقيد العلاقة الإسرائيلية مع اللغة والثقافة العربية. فبينما تُوظف اللغة كأداة لفهم الآخر والتغلغل في صفوفه، تبقى أيضًا رمزًا لجوانب من الهوية والتاريخ المشترك الذي لا يمكن تجاهله.
إن الرؤية والموقف في المجتمع الإسرائيلي حيال لغة وثقافة العدو يختلف تمامًا عن رؤيتنا وموقفنا نحن، معشر العرب والمسلمين، تجاه اللغة العبرية والثقافة اليهودية، فبينما يتم في إسرائيل دعم وتشجيع كل المبادرات الهادفة إلى تعلم اللغة العربية وممارستها ودراسة الثقافة العربية ويُنظر إلى ذلك كضرورة استراتيجية للبقاء وللاندماج في المحيط العربي عندما تحين الفرصة، نجد أن مجتمعاتنا قد تعودت على معاداة من يختلف معنا في الرأي حتى من أبناء جلدتنا ومن فروع عقيدتنا، واعتدنا على مجافاة ومقاطعة أعدائنا وقطع أي وسيلة من وسائل الاتصال بهم، وتجريم أي محاولة من محاولات التعرف عليهم والالتقاء بهم، وهكذا أصبح حالنا فيما يتعلق باليهود والإسرائيليين ولغتهم وتاريخهم وثقافتهم، فنحن لا نعرف عنهم الكثير، ولا يتوفر لدينا ما يكفي من الوسائل والمرافق اللازمة لتحقيق ذلك، والأدهى أن من يحاول منا دراسة اللغة العبرية أو التعرف على الثقافة اليهودية يصبح شخصا مشكوكا في نواياه، وغالبًا ما يوصم بالعمالة والخيانة، واليوم يستخدم أيضًا مصطلح “مطبعًا”، وهو واقع أو نهج أدى إلى ترسيخ وتوسيع الفجوة في المعرفة المتبادلة بيننا وبين الإسرائيليين، وأصبحت إسرائيل تستفيد منه أيما فائدة؛ فهو يعزز جهلنا بها في خضم صراعنا معها، فنصبح كمن يحارب في الظلام، ويعكس هذا الواقع ضيق النظر، وانعدام الثقة بالنفس، وضعف الانفتاح الثقافي والعلمي، وغياب رؤية استراتيجية لفهم الآخر.
إنّ احترامنا وتقديسنا للدين الإسلامي يفرض علينا تجنب إقحامه في أي طرح سياسي، إلا أننا لا نستطع في هذا السياق مقاومة الإشارة إلى أن أول كلمة نزلت للمسلمين كانت “إقرأ” وهي الكلمة التي أراد لها الله سبحانه وتعالى أن تكون قاعدة الإيمان والفكر والعمل الإسلامي، وهي توجيه وتنبيه إلهي صريح وواضح إلى أن القراءة هي الحصن المنيع ضد جهل وتخلف الأمم، كما أن رسولنا الأعظم محمد عليه أفضل الصلاة والسلام كان قد نبهنا أيضًا إلى الأهمية الاستراتيجية لدراسة لغة وفكر الطرف الآخر؛ ففي سنن أبي داود: قال زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتعلمت له كتاب يهود، وقال: إني والله ما آمن يهود على كتابي، فتعلمته، فلم يمر بي إلا نصف شهر حتى حذقته، فكنت أكتب له إذا كتب، وأقرأ له إذا كتب إليه”؛ لكن يبدو أن الطرف الآخر اختطف هذا التوجيه وقرأه واستوعبه وطبقه بكل جدية؛ ولعل هذا أحد أسباب تفوقه وقدرته على هزيمتنا.
فنحن أمة “اقرأ” أصبحنا لا نقرأ، ورغم أننا نرفض المقولة المشهورة المنسوبة إلى وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشي دايان عندما سُئل: ألا تخاف أن يعرف العرب خططكم ويتصرفون على أساسها؟ كانت إجابته: “إن العرب أمة لا تقرأ، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يتحركون”؛ إلا أن تقارير المنظمات الدولية المعنية تؤكد للأسف الشديد صحة استنتاج دايان وتدني مستوى القراءة في العالم العربي.
فوفقًا لتقرير التنمية البشرية لعام 2023 الصادر عن منظمة اليونسكو، فإن العالم العربي يعاني من فجوة كبيرة في معدلات القراءة مقارنة بالدول الغربية وغيرها، حيث تشير الإحصائيات إلى أن متوسط ما يُقرأ سنويًا في العالم العربي لا يتجاوز 4 كتب للفرد الواحد، بينما يصل هذا الرقم في أوروبا وأمريكا إلى ما بين 35 و40 كتابًا، وأن المواطن الإسرائيلي يقرأ 40 كتابًا في السنة أيضًا، وكانت المنظمة ذاتها قد ذكرت في أحد تقاريرها السابقة أن كل 80 شخصًا في العالم العربي يقرأون كتابًا واحدًا في السنة، كما أن مؤسسة الفكر العربي أصدرت تقريرًا يفيد بأن متوسط قراءة الفرد الأوروبي يبلغ نحو 200 ساعة سنويًا، بينما لا يتعدى متوسط قراءة المواطن العربي 6 دقائق سنويًا. 
هذه الفجوة الواسعة في معدلات القراءة تعكس تحديات كبيرة تواجه العالم العربي في تعزيز ثقافة القراءة والاهتمام بالمعرفة اللازمة للحاق بركب التقدم والتطور والخروج من مأزق الضعف والتخلف.
نعود في النهاية إلى صلب الموضوع وهو اهتمام الإسرائيليين الجاد واللافت باللغة العربية وعلومها وثقافة العرب والمسلمين وحضارتهم وتاريخهم، وتأسيسهم للعشرات من مؤسسات ومراكز البحوث والدراسات العربية والإسلامية في إسرائيل، وأقسام ودوائر دراسات الثقافة والحضارة واللغة العربية في المعاهد والجامعات الاسرائيلية؛ لنطرح هذا السؤال الجوهري: هل ثمة إدراك وجهود مماثلة يشهدها العالم العربي في معاقله الثقافية التاريخية مثل القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد وغيرها  أو المراكز الناهضة في الرياض وأبوظبي والمنامة والدوحة ومسقط والكويت، أو في العالم الإسلامي في تجمعاته السكانية الكثيفة في إندونيسيا وماليزيا والباكستان وإيران وتركيا للاهتمام بتعلم اللغة العبرية ودراسة الثقافة والتراث والدين اليهودي؟. على الأقل من منطلق “من تعلم لغة قوم أمن شرهم”. 

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .