عندما حدث “طوفان الأقصى” في أكتوبر من العام 2023، قلنا إن القضية الفلسطينية لن تستفيد من هذا الحدث الخطير، بل ستتضرر منه، وستكون له عواقب وتداعيات وارتدادات كارثية مدمرة على المنطقة بأسرها، وقد اختلف معنا أصحاب الرأي الآخر، الذين ظنوا أن الحدث قد يغير موازين القوى لصالح الفلسطينيين.
وقد عشنا منذ ذلك التاريخ واقعًا قاسيًا مؤلمًا، وبدأنا العام الذي تلاه 2024، ونحن غارقون في بحر من الإحباط والتشاؤم والانكسار؛ نتيجة للواقع المأساوي الذي يعصف بعدد من الدول والشعوب العربية، من السودان الغارق في نزاعات دموية، إلى ليبيا المنقسمة على ذاتها، ولبنان الذي يرزح تحت أزمات سياسية واقتصادية خانقة، وسوريا التي ما تزال تبحث عن طريق للخلاص من حربها الطويلة، وصولًا إلى العراق واليمن، حيث تتفاقم المعاناة اليومية بفعل الصراعات المزمنة، وبالإجمال فقد كانت الأوضاع مخيبة للآمال وتدعو إلى الحزن والأسى وإلى القلق والحيرة، لكن الهم الأكبر والجرح الأكثر نزيفًا وإيلامًا كان حال أشقائنا الفلسطينيين في غزة بالذات، وقتها كان قد مضى نحو ثلاثة أشهر منذ اندلاع طوفان الأقصى، ومنذ أن وقع قطاع غزة تحت الحملة العسكرية الإسرائيلية الشرسة وقصفها الجوي والصاروخي المدمر الذي أخذ يحصد في أرواح الفلسطينيين؛ رجالهم ونسائهم، أطفالهم وشيوخهم، ومحا أحياءً ومدنًا من الوجود وحوّلها إلى ركام، أو جعل الحياة فيها مستحيلة. كانت غزة وما تزال تعيش مأساة تتجاوز حدود الخيال، وأصبح الموت والدمار عنوانًا وجزءًا من تفاصيل الحياة اليومية.
إن ارتدادات وتداعيات “طوفان الأقصى” استمرت بالعام الماضي في التتابع، وفي تغيير معالم الواقع العربي ودفعه نحو مزيد من التدهور والانحدار، وجاء ما يمكن وصفه بـ “الطوفان الأكبر” عندما انفجر الوضع في سوريا، وأطاح بنظام الأسد، وبدلًا من أن يجلب الاستقرار إلى هذا البلد المحوري عمّق هذا السقوط حالة الانقسام والتشتّت فيه، وزاد من حدة الاستقطاب الإقليمي، كما ساهم في ترجيح كفة التوازن الاستراتيجي في المنطقة لصالح إسرائيل.
حيال هذه التطورات والتحولات الكبرى يبرز تساؤل كبير ملحّ: هل سيستمر مسلسل التدهور في العام الجديد؟ وهل سيكون أسوأ من الأعوام التي سبقته بالنسبة إلينا؟
في رأيي، إن المفاجآت والأزمات في المنطقة لن تتوقف؛ بل ربما تزداد حدتها وتنوعها. لكن كما تقول الحكمة: “اشتدي أزمة تنفرجي”. فالتاريخ وتجارب الحياة يثبتان أن الأزمات، رغم قسوتها، تحمل في طياتها فرصًا لمن يعرف كيف يستغلها. وعلى هذا الأساس علينا أن نرفض الاستسلام لليأس، وفي الوقت نفسه، عدم البقاء أسرى لمواقفنا العاطفية أو السلبية، والمبادرة بتبني مواقف عقلانية ومنطقية شجاعة، قادرة على تحويل المآسي إلى بوادر أمل ومبادرات حقيقية نحو التغيير. فقد تعب العالم معنا وملّ منّا ومن مشكلاتنا، وتعبت الشعوب العربية وأنهكت قواها من استمرار النزيف الناتج عن الاضطرابات وعدم الاستقرار والخلافات والمشاحنات، فأصبح مطلب التغيير أكثر إلحاحًا.
إن التغيير المطلوب يتطلّب تهيئة الرأي العام العربي، وإعادة بناء وعي وطني شعبي يستند إلى الحقائق لا الشعارات. كما يتطلب دورًا أكثر فاعلية للنخب العربية الواعية؛ من أجل صياغة رؤية واضحة وحلول عملية للقضايا المتراكمة. ويجب أن تكون هناك شراكة حقيقية مع المجتمع الدولي تهدف إلى إيجاد حلول مستدامة للصراعات الممتدة، مع التركيز على إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة السياسية باستخدام لغة الحوار والتفاوض والتخلي عن أساليب العنف واستخدام السلاح لضمان ما تبقى من حقوق الفلسطينيين المشروعة وبناء سلام عادل ودائم في المنطقة يمكننا جميعًا من اللحاق بركب التحضر والتقدم.
تأسيسًا على كل هذه المنطلقات والمعطيات، ومن دون أن ندّعي القدرة على التنجيم، فإننا سنحاول، وبعيون الواقع والمنطق، قراءة المشهد المتوقع على بعض فصول المسرح العربي في هذا العام، الذي سيرى في شهره الأول تربع الرئيس ترامب على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض؛ والذي سيبادر بتحجيم دور إيران في المنطقة، وسيوجّه المزيد من الضغوط عليها، مستفيدًا من تراجع قدرتها على الاستمرار في سياساتها التوسعية وتمويل أذرعها ونفوذها في المنطقة، وسيستعمل في تعامله معها أسلوب الترغيب والتهديد؛ أو سياسة “الجزرة والعصا”، بمعنى إما التعاون أو الاختناق، ولن يكون بإمكان الحكومة الإيرانية سوى اختيار “الجزرة”، التي سيتم على أساسها التوصّل إلى اتفاق تتوقف بموجبه إيران عن دعم المنظمات الإرهابية في المنطقة، وسيسمح لها بتطوير قدراتها النووية لأغراض سلمية دون أن يؤدي ذلك إلى امتلاكها للسلاح النووي، في مقابل رفع الحصار وتوقيع اتفاقات تجارية واقتصادية تؤمن لإيران استعادة أرصدتها المالية المجمدة، وتطوير صناعاتها البترولية بالشكل الذي يمكّنها من رفع طاقاتها الإنتاجية، هذا في حال استمرار نظام الحكم في البقاء، والذي بدأ يتلقى اللوم والإدانة من الشعب الإيراني لتفريطه وإضاعته لآلاف الأرواح الإيرانية والبلايين من الدولارات في مغامراته الخارجية الخاسرة.
ومع تعرض “حماس” لضربات عسكرية مكثفة، فمن المتوقع أن تشهد الحركة انهيارًا كاملًا، وستحكم إسرائيل قبضتها وسيطرتها على قطاع غزة، وقد تسلّم مسؤولية إدارته إلى السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة محمود عباس أو أي جهة أخرى، مع الاحتفاظ بسيطرة أمنية وعسكرية مباشرة. وفي هذا العام لن يتم الشروع أو حتى الاتفاق على إعادة تعمير غزة.
وسيواصل ترامب دعمه غير المشروط لإسرائيل، التي ستستغل ذلك لتعزيز موقفها الإقليمي. ومن المتوقع أن يعمل الرئيس الأميركي على استعادة الأسرى أو المحتجزين الإسرائيليين لدى حركة حماس. وثمة توقعات بأن يعلن ترامب ضم الضفة الغربية إلى إسرائيل كما فعل من قبل بالنسبة لهضبة الجولان.
وسيحاول ترامب فرض حل للقضية الفلسطينية، وسيعيد لهذا الغرض إحياء خطة “صفقة القرن” بشروط أكثر سخاء لإسرائيل، التي أصبحت في موقف استراتيجي أقوى مما كانت عليه من قبل، ومن المستبعد أن يُطرح “حل الدولتين” كخيار عملي؛ نظرًا لاستحالة إخلاء أكثر من 800 ألف مستوطن إسرائيلي في الضفة الغربية وتفكيك مستوطناتهم. وإن تم النظر في أي حل يتضمّن إقامة دولة فلسطينية، فإن ذلك سيكون على حساب أراضٍ مصرية وأردنية وعبر سياسات التهجير القسري أو إعادة التوطين للفلسطينيين، وهي أفكار سبق أن أُثيرت في مراحل سابقة.
ومع تزايد الضغوط على “حزب الله” بالفترة الأخيرة، وتعرضه لهجمات إسرائيلية مكثفة استهدفت ترساناته الصاروخية، وقضت على الصفوف الأولى من قياداته السياسية والعسكرية، ودمرت خطوط دفاعاته الأمامية، إلى جانب انقطاع الإمدادات التي كانت تصل إليه عبر سوريا، وتوقف الدعم العسكري والمالي الإيراني؛ بسبب عجز إيران عن مواصلة ذلك، فلم يبق أمام الحزب إلا التخلي عن سياسة المواجهة العسكرية مع إسرائيل، وعدم محاولة العودة المسلحة للجنوب اللبناني، وتسليم ما تبقى من أسلحته للجيش اللبناني، فإذا لم يستجب لهذه المتطلبات والترتيبات، فإن إسرائيل ستواصل حربها وتصعد عملياتها لتشمل مناطق أوسع من لبنان، ما يهدّد بجرّ البلاد إلى دوامة جديدة من الحرب. والأسوأ من ذلك، أن هذه التوترات قد تؤدي إلى اندلاع حرب أهلية جديدة داخل لبنان، خصوصًا في ظل الانقسام الداخلي الحاد، وتصاعد الضغوط الاقتصادية التي تدفع البلاد إلى حافة الانهيار.
إن المنطقة بأسرها تتحضّر لتحول كبير هذا العام، إلا أن ضيق المساحة المتوافرة لنا على هذه الصفحة لن تسمح لنا بالاستمرار في محاولة استشفاف وقراءة التصورات، والتوقف أمام حلقات مهمة في سلسلة التداعيات التي ستشهدها في هذا العام دول مهددة بتفاقم القلاقل والاضطرابات والتوترات مثل العراق وسوريا واليمن، آملين أن نتمكّن من ذلك في وقفات مقبلة.