العدد 5955
الأحد 02 فبراير 2025
الفكر السياسي الشيعي في مواجهة التطورات الجيوسياسية الأخيرة في المنطقة (1 - 3)
الأحد 02 فبراير 2025

إن من أبرز وأخطر التطورات والأحداث التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط بشكل دراماتيكي في الفترة الأخيرة، كانت الحرب المدمرة التي شنتها إسرائيل للقضاء على حركة حماس في قطاع غزة، وما تبعها من عدوان إسرائيلي على لبنان استهدف حزب الله، إلى جانب انهيار نظام بشار الأسد في سوريا، وانزلاق اليمنيين الحوثيين إلى خط المواجهة مع إسرائيل، وكان لقطاعات لا يستهان بها من الشيعة العرب دور محوري غير مسبوق الزخم في حلبة هذه الأحداث والتطورات الخطيرة، تتقدمهم فصائل ومنظمات مسلحة ترفع لافتات وشعارات مذهبية ويقودها، في الغالب، رجال يرتدون الزي أو القناع الديني الشيعي، ويشكلون الأذرع العربية المنفذة لسياسة النظام الحاكم في إيران الذي كان يتفاخر بتمكنه، من خلالهم، من السيطرة على أربع عواصم عربية.
ولكي نتمكن من التطرق، ولو بإيجاز شديد، إلى كيفية تعاطي وتفاعل الشيعة العرب ومنظماتهم مع هذه التطورات، وما نتج عنها، لا بد لنا من إجراء مراجعة سريعة مقتضبة أو إلقاء نظرة خاطفة للخلفية التاريخية لبعض جوانب تطور الفكر السياسي الشيعي الذي كان المحرك الأساسي لهذا التعاطي والتفاعل.
ولقد أصاب “الأئمة المعصومون” عند الشيعة الإمامية الاثني عشرية عندما نصحوا بل أمروا الشيعة وفقهاءهم وعلماءهم بالاكتفاء والتركيز على الإمامة أو الرئاسة الدينية والروحية لأتباعهم وتجنب السعي وراء الإمامة السياسية أو تقلدها، وذلك بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) في معركة كربلاء المأساوية في العام 61هـ، وهي جريمة مروعة هزت ضمير الأمة الإسلامية قاطبة، وأدت إلى حدوث تحول ملحوظ في الفكر السياسي الشيعي.
وفي الوقت نفسه أدرك قادة الشيعة ومفكروهم أن ما يبرر هذا النهج أو هذه الدعوة أيضًا هو أن أهل السنة والجماعة كانوا يشكلون الغالبية العظمى للأمة الإسلامية، وأن هذه الغالبية تتضاعف مع توسع الفتوحات التي تحققها الدولة الأموية ثم العباسية، بما يجعل الشيعة أقلية بنسب تتجه نحو المزيد من التراجع، ويؤدي بالنتيجة إلى ميلان في ميزان القوى ليس في صالحهم. وبغض النظر عن ذلك، فإن هذه الدعوة لم تكن تعني الأمر بالانسحاب الكامل للشيعة من الحياة السياسية، بل كانت تمثل موقفًا تكتيكيًا براغماتيا ربما كان يهدف أيضًا إلى دفع الشيعة للتمسك بالوسائل السلمية، والاندماج والانصهار في الجهد الإسلامي الموحد، إلى جانب أنه يستجيب إلى مقتضيات النهج الواقعي المنطقي الناتج عن الظروف السياسية القمعية التي كان الشيعة يعانون منها في تلك الفترة، هذا النهج أدى إلى بناء منظومة فكرية وفقهية للشيعة الإمامية طور على أساسها أئمتهم وفقهاؤهم “نظرية الانتظار” التي تعني التخلي عن مشاريع مقاومة ومواجهة السلطة بالقوة أو محاولات القفز إلى كراسي الحكم بهويتهم الشيعية، والانتظار حتى ظهور الإمام الثاني عشر، المخَلّص، المهدي المنتظر الذي عند ظهوره “سيملأ الأرض عدلًا ونورًا بعد أن ملئت ظلمًا وجورًا”. 
إن ظهور الإمام المهدي المنتظر عقيدة يؤمن بها المسلمون سنتهم وشيعتهم، والاختلاف فقط هو أن هذه العقيدة أصبحت عقيدة مركزية أساسية عند الشيعة الإمامية، بينما هي عقيدة جانبية فرعية عند أهل السنة والجماعة، وأن الإمام المهدي عند الشيعة ولد في العام 255هـ وغاب أو اختفى عن الأنظار في العام 260هـ، وهو باقٍ على قيد الحياة، وسيعود للظهور عندما تتهيأ الظروف، أما بالنسبة للسنة فإنه سيولد ويظهر مستقبلًا عندما تستدعي وتتهيأ الظروف أيضًا، ولكي “يملأ الأرض عدلًا ونورًا بعد أن ملئت ظلمًا وجورا” كما قال الرسول الأعظم عليه أفضل الصلاة والسلام.
وللتوضيح تجدر الإشارة هنا إلى أن الإسماعيليين بمختلف تفرعاتهم، والزيديين أيضًا لا يُعدون ضمن الشيعة الإمامية بل مخالفين لهم، والعلويون الذين ينتسب لهم آل الأسد السوريون هم غلاة نصيريون. وأن الدولة الفاطمية لا تعد دولة شيعية، حسب المفهوم الاثني عشري.
وقد التزم أئمة الشيعة الإمامية بعد الإمام الحسين بنهج الانتظار، وتجنبوا القيام بأي محاولة لمواجهة مسلحة مع الأنظمة الحاكمة، ومن خالف ذلك من الشيعة أو حتى من الهاشميين والعلويين فشل في تحقيق أهدافه ولقي حتفه، كان أولهم أو ربما أبرزهم زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الذي ثار في العام 122هـ في الكوفة ضد الأمويين وحُكم هشام بن عبدالملك، وانتهت الثورة بقتله وصلبه والقضاء على ثورته وفشلها، والشهيد زيد بن علي هو أخو الإمام محمد الباقر الإمام الخامس عند الشيعة الإمامية، الذي نصح أخاه بالعدول عن فكرة الثورة لحتمية فشلها، وقد أدى موقف زيد بن علي وخروجه على الدولة الأموية إلى تأسيس “المذهب الزيدي” المنتشر في اليمن حتى الآن.
وهناك حدث أو تطور ذو صلة بهذا الموضوع، وذو دلالات بالغة، ولا شك أنه أثار الكثير من التساؤل بين الأوساط الشيعية على مفهوم الإمامة ونظرية الانتظار، ولذلك لا يمكن تجاوزه أو إغفال التوقف عنده، ونحن نناقش هذه المسألة، وهذا الحدث هو الصراع الذي وقع على السلطة بين الأخوين غير الشقيقين الأمين والمأمون ابني الخليفة العباسي هارون الرشيد، الذي أوصى بالخلافة من بعده إلى أبنائه محمد الأمين ثم عبدالله المأمون ثم القاسم المؤتمن، مع أن المأمون كان أكبر سنًا من الأمين، على الرغم من ذلك فإن الأمين بعد توليه الخلافة لم يلتزم بهذه الوصية، وتخطى أخاه المأمون وعزله، وعين ابنه موسى وليًا للعهد، فاحتد واحتدم الخلاف والصراع على الخلافة بينهما وتطور إلى حروب ومواجهات مسلحة عنيفة دامت لأكثر من خمس سنوات، وتميزت بتجذر الخلاف داخل البلاط العباسي، وبترسيخ الاصطفاف والصراع على السلطة والنفوذ بين العرب والفرس في الدولة الإسلامية.
وقد استعمل المأمون كل الوسائل للوصول إلى ما اعتبره حقه في الخلافة، منها سعيه إلى استمالة الشيعة والعلويين والهاشميين واستقطابهم إلى جانبه، ولأجل ذلك فقد أغدق عليهم وقربهم إليه، ودعا الإمام علي بن موسى الرضا، الإمام الثامن عند الشيعة الاثني عشرية، وعينه، أو فرض عليه، حسب السردية الشيعية، أن يكون وليًا للعهد، وصار أئمة الجمعة يدعون للإمام الرضا على المنابر في كل جمعة وكل مناسبة، وأمر المأمون بضرب النقود باسم الإمام الرضا. ولما حُسم الخلاف لصالحه بانتصاره ومقتل أخيه الأمين دس المأمون السم للإمام وتخلص منه، حسب السردية الشيعية أيضًا، ولإظهار حبه وتقديره للإمام أمر بأن يدفن إلى جانب جثمان والده هارون الرشيد المدفون في مدينة “طوس” الإيرانية التي صار اسمها فيما بعد “مشهد”.
وقد أرخ هذه الحادثة الشاعر الشيعي المعروف دعبل الخزاعي بقوله:  
قبرانِ في طُوس خيرُ الناسِ كلِّهِمُ.. وقَبْرُ شرِّهم، هذا مِن الْعِبَرِ! 
ما ينفعُ الرجسَ منْ قربِ الزكيّ ، وما.. على الزكيّ بقربِ الرجسِ منْ ضررِ 
هيهاتَ كلُّ امرئ ٍ رهنٌ بما كسبتْ.. له يَدَاهُ، فَخُذْ مَا شِئْتَ أَو فَذَرِ
وفي المعارك التي دارت بين الأمين والمأمون وقفت خراسان وبلاد فارس إلى جانب المأمون بينما كانت غالبية جنود الأمين من العرب، ولعل من بين أسباب هذا الاصطفاف هو أن أم الأمين عربية عباسية تدعى “زبيدة بنت جعفر بن المنصور”، بينما كانت أم أخيه المأمون جارية فارسية تدعى “مراجل”.
وفي لقاء الغد، إن شاء الله، سنرى كيف تمكنت بعض مدارس الفكر السياسي الشيعي من تجاوز واختراق “نظرية الانتظار”.

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .