تحدثنا في لقاء أمس عن انبثاق وتطور “نظرية الانتظار” ضمن الفكر السياسي الشيعي، إلا أن الشيعة الإمامية الاثني عشرية تمكنوا من تجاوز واختراق هذه النظرية وتأسيس دويلات خاصة بهم في فترات مختلفة من التاريخ الإسلامي، مثل الدولة البويهية والدولة الحمدانية، كما تمكن بعض فقهاء وعلماء الشيعة في القرن الرابع عشر الميلادي وما بعده من تحوير هذه النظرية وإعادة تأطيرها وتأهيلها لتكون قاعدة لنظام حكم “الدولة الصفوية”، وبموجب هذا التأطير تم تحويل بلاد فارس من دولة ذات أكثرية سنية إلى دولة ذات أكثرية شيعية على يد الملك إسماعيل الأول الصفوي مؤسس الدولة الصفوية في العام 1501م، وتحت هذا النظام تشكلت شراكة أو تقاسم للسلطة بين الملوك الصفويين الذين أمسكوا بزمام السلطة الدنيوية أو السياسية، وعلماء الدين الشيعة الإيرانيين الذين مارسوا سلطاتهم الدينية والروحية مع نفوذ وتأثير بالغين على السلطات السياسية، فكان الفقهاء يمنحون الإجازة للصفويين للحكم نيابة عن الإمام الغائب فيما عرف بـ “إجازة الملوك”، وبذلك تم التغلب على القيود التي فرضتها نظرية الانتظار على رجال الدين الشيعة، وقد انهارت الدولة الصفوية في العام 1736م ولكن ظلت الغالبية العظمى لسكان إيران تنتمي إلى المذهب الشيعي الإمامي، وصار شيعة إيران هم الأكثر عددًا مقارنة بالشيعة في أي دولة مسلمة أخرى، وصاروا الأكثر تأثيرًا ومساهمة في تطور الفكر السياسي الشيعي.
ومن إيران أيضا، وفي منتصف القرن الماضي، جاء الإمام الخميني ونسف “نظرية الانتظار” وأرسى مكانها “نظرية ولاية الفقيه” التي وفرت الآلية لإعادة صياغة علاقة الشيعة بالسلطة، وأتاحت للعالِم أو الفقيه أو رجل الدين الشيعي، في فترة غياب الإمام المهدي المنتظر، السعي لتقلد زمام الإمامة والقيادة السياسية نيابة عنه إلى جانب الإمامة الدينية والروحية، فوضعت نظرية ولاية الفقيه في يد الفقيه الشيعي في وقت واحد السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية مجتمعة، وقد ووجهت هذه النظرية بشجب ومعارضة الكثير من فقهاء وعلماء الدين الشيعة منذ إطلاقها وحتى اليوم.
وخلال حكم الدولة العثمانية للعالم العربي، الذي دام لـ 800 عام، استمر رجال الدين الشيعة العرب بالالتزام، مكرهين أم مخيرين، بنظرية الانتظار. وبعد سقوط الدولة العثمانية ووقوع العراق تحت الانتداب البريطاني تزعم علماء الدين العراقيون الشيعة “ثورة العشرين” التي اندلعت في العام 1920 ضد البريطانيين، وكانوا من أبرز المحرضين على الثورة ضد الاحتلال البريطاني، وأصدروا الفتاوى التي تدعو لمقاومة البريطانيين باعتبارهم قوة احتلال، وكان على رأسهم آية الله الشيخ محمد تقي الشيرازي المرجع الشيعي الأعلى آنذاك، الذي أصدر فتوى تحرّم التعاون مع الاحتلال البريطاني وتدعو للجهاد.
لم تنجح هذه الثورة أو تحقق أيًا من أهدافها على الرغم من فتاوى المرجعية العليا؛ وذلك بسبب اعتمادها على الحماس العاطفي الديني والاندفاع الشعبي، وافتقارها إلى التنظيم المحكم والرؤية أو القاعدة الفكرية. فالثورات الناجحة دائمة التأثير تبنى على أسس فكرية، الثورة الفرنسية على سبيل المثال قامت على أفكار فلاسفة ومفكرين مثل جان جاك روسو وفولتير ومونتسكيو وغيرهم من كبار المفكرين الفرنسيين، وليس من كبار الباباوات والأساقفة والرهبان المسيحيين، أو ضباط الجيوش كما حصل في القرن العشرين في مصر والعراق وسوريا وليبيا واليمن عندما سميت الانقلابات العسكرية بالثورات.
لقد تكبدت العشائر الشيعية العراقية نتيجة لتلك الثورة خسائر كبيرة خلال المواجهات مع القوات البريطانية التي كانت تمتلك تفوقًا عسكريًا واسعًا، وعانى الشيعة في العراق بعد فشلها المزيد من التهميش السياسي والاقتصادي خلال فترة الاستعمار البريطاني وتأسيس الدولة العراقية.
وقد نجح الإمام الخميني في إشعال وقيادة ثورة شعبية في إيران قضت على نظام الحكم الملكي فيها، وأطاحت بالشاه محمد رضا بهلوي وحكومته العلمانية، وأقامت على أنقاضها في العام 1979 نظام حكم جمهوريًا دينيًا بقيادة “الولي الفقيه” الإمام الخميني وعلى أساس “نظرية ولاية الفقيه”.
واستنادًا إلى عقيدة “الفتح والجهاد”، وبأجندة توسعية، أطلق نظام الحكم في إيران شعار “تصدير الثورة” إلى دول الجوار، الذي اصطدم بردود فعل صارمة من هذه الدول أدت إلى نشوب الحرب العراقية الإيرانية التي دامت لثماني سنوات وذهب ضحيتها قرابة مليون قتيل، غالبيتهم العظمى من الشيعة الإمامية من صفوف مقاتلي الطرفين.
إن قيادة فقهاء ورجال الدين الشيعة للثورة ونجاحهم في الوصول إلى سدة الحكم في إيران وتمكنهم من الإمساك بزمامها بقوة لأكثر من 45 عامًا حتى الآن، يبرز كتجربة فريدة من نوعها في العالم الإسلامي في عصرنا الحاضر، وللمقارنة فإن حركة طالبان الإسلامية السنية كانت قد نجحت في الوصول إلى السلطة في أفغانستان بقيادة الملا محمد عمر في العام 1996 وتأسيس “الإمارة الإسلامية في أفغانستان”، إلا أنه تمت الإطاحة بها بعد خمس سنوات من قيامها على أثر غزو الولايات المتحدة لأفغانستان في العام 2001، وقد استعادت طالبان السلطة في أفغانستان مرة أخرى منذ العام 2021 بعد انسحاب الولايات المتحدة.
وعلى الجانب السني كذلك، بزغت حركة “الإخوان المسلمين” السياسية في مصر في العام 1928، وأسسها الداعية الإسلامي حسن البنا الذي اغتيل في العام 1949 أمام مقر جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة. وقد بذلت الحركة جهودا مكثفة ومارست ضغوطًا متزايدة للوصول إلى مركز السلطة، لكن تمت مواجهتها وتحجيمها من قبل النظام الحاكم في العهد الملكي، ثم أعادت الكرة بعد قيام النظام الجمهوري في العام 1952 فصارت المواجهة معها عنيفة ودموية أدت في النهاية إلى إعدام مرشدها أو زعيمها الداعية الإسلامي سيد قطب، الذي كان يعد واحدًا من بين أكثر الأيديولوجيين الإسلاميين شهرة في القرن العشرين، وكانت التهمة التي وجهت له “تأسيس تنظيم سري مسلح لحزب الإخوان المسلمين المنحل ومحاولة قلب نظام الحكم بالقوة”، ثم جرى ملاحقة أتباع الحركة والزج بقياداتها في السجون.
وبعد نجاح ثورة يناير في مصر في العام 2011 والإطاحة بالرئيس حسني مبارك، قفزت قيادات الإخوان مرة أخرى ونجحت هذه المرة في اختطاف الثورة وتمكنت من التسلق إلى كراسي الحكم، إلا أن ذلك لم يدم أكثر من عام واحد؛ فبعد مظاهرات حاشدة تمت إزاحتهم عن مقاعد السلطة وإبعادهم ومحاربتهم ومطاردتهم على مستوى الوطن العربي. في المقابل، وللمقارنة أيضًا، فقد نظم المسلمون الهنود حركة مكنتهم من الانفصال عن الهند وتأسيس الجمهورية الباكستانية في العام 1947 لتكون وطنًا مستقلًا لهم، ونجحت الحركة التي لم تكن بقيادة فقهاء أو رجال دين بل كانت بقيادة مفكرين من أمثال الشاعر الفيلسوف محمد إقبال وسياسيين بقيادة العلماني محمد علي جناح.
لقد ظل فكر الإخوان يتلقى أكسجين الحياة من سوء أداء أنظمة الحكم في الدول العربية والإسلامية، وهذا الفكر أسس للعديد من الحركات الجهادية السنية والشيعية في العالم، والتي تنتهج العنف الدموي كوسيلة لنشر الفكر الديني وفرضه على الناس.
وقد أرسى سيد قطب أفكاره على مبدأ “الحاكمية لله” وهو مبدأ يستمد عروقه من الشعار الذي رفعه “الخوارج” في مواجهة الإمام علي: “إن الحكم إلا لله”، الذي وصفه الإمام بأنه “كلمة حق يراد بها باطل”.
وكان سيد قطب يرى أن الجهاد الحقيقي هو تكليف إلهي يُجيز اختراق الحدود وإسقاط الأنظمة والحكومات القائمة على “حاكمية البشر”، وإعادة السلطة أو الحاكمية إلى الله وفق فهمه الخاص لهذا المفهوم، وعلى أساس هذا المنطق أيضًا تبنى نظام الإمام الخميني شعار “تصدير الثورة”، مستندًا إلى رؤية مماثلة تسعى إلى فرض نموذج ديني سياسي عابر للحدود، يقوم على إقصاء الأنظمة القائمة واستبدالها بحكم ديني يزعم تمثيل الإرادة الإلهية.
ودون الحاجة إلى استدعاء المزيد من الشواهد والحالات التي تثبت عجز رجال الدين الإسلاميين المتسيسين والتنظيمات السياسية الإسلامية، السنية منها والشيعية، عن الاضطلاع بنجاح بالمسؤوليات السياسية والقيادية في عصرنا الحاضر، فإن الواقع الحالي للحراك السياسي الشيعي يؤكد أن “أئمة الشيعة المعصومين” كانوا على الحق والصواب عندما نصحوا فقهاء الشيعة الإمامية وأمروهم بالاكتفاء والتركيز على الإمامة أو الرئاسة الدينية والروحية لأتباعهم، وتجنب السعي وراء الإمامة السياسية أو تقلدها بالقوة، إن هذا التوجيه الحكيم يمكن اعتباره بكل سهولة البذرة الفكرية لمبدأ التمسك بالوسائل السلمية، ومبدأ “فصل الدين عن الدولة”، ذلك المبدأ الذي اهتدى العالم إلى وجاهته بعد قرون طويلة، وبعد أن ذاق مرارة تدخل الكنيسة في شؤون الدولة والسياسة وعدم تركها “ما لله لله، وما لقيصر لقيصر”.
غدًا، إن شاء الله، سنرى كيف تم الزج بعدد من المنظمات والفصائل الشيعية المسلحة في مواجهات خاسرة في خضم التطورات الخطيرة التي شهدتها المنطقة مؤخرًا.