العدد 5935
الإثنين 13 يناير 2025
الخلل في كتابة التاريخ العربي (3)
الإثنين 13 يناير 2025

في ختام هذه المقاربة حول الخلل المنهجي في كتابة التاريخ العربي، نشير إلى أن هناك مشكلات أخرى تتجاوز موضوع المنهج إلى المضامين واللغة والرواية والآيديولوجيات الناظمة ودور الفرد في التاريخ وغيرها، وهي قضايا جديرة بالبحث والدرس، بما في ذلك تحديد موضوع التاريخ بما هو علم، وليس مجرد حكايات وقصص وسير وتأريخ للأحداث التفصيلية يوما بيوم أو سنة بسنة، إنما التاريخ يفترض أن يركز - من حيث المضمون - على الاجتماع الإنساني، شاملا البيئة والاقتصاد والقانون والإدارة والمجتمع وآليات تطوره، بما في ذلك نمط الإنتاج الذي يعطي المجتمع خصائصه، ويسهم في إنتاج ثقافته وقيمه، وماهيات التنظيمات الإدارية والحقوقية التي تكرس هذا الوضع وتحاول الإبقاء عليه، أو تلك التي تحاول تغييره، وما يمكن أن يطرأ على هذا الوضع من تغيرات، خصوصا أن المجتمع كلٌّ متشابك يتوجب النظر إليه ورصد حركته في الزمان والمكان، وتحليله من عدة زوايا في ذات الوقت، وتحليل التأثيرات المتبادلة بين السياسة والاقتصاد والمؤسسات والتشريعات والبنى الثقافية والأفكار وغيرها من الجوانب ذات التأثير المباشر أو غير المباشر في حياة المجتمع.
ومن هنا فإن موضوع التاريخ يعني في المحصلة البحث في هذه العلاقات وتشابكها والتأثيرات المتبادلة بينها في حركة جدلية لا تتوقف، ودور كل ذلك في تطوير المجتمعات وتمدنها، وما يطرأ عليها من أزمات تعصف بها وما قد تشهده من حروب وصراعات. 
من دون أن يعني ذلك إغفال دور الفرد وتأثيره في التاريخ، لكن بعيدا عن النظريات التي تؤله الأفراد وتحولهم إلى قوى خارقة لا تختلف عن قوى الطبيعة الكاسحة، بما في ذلك القول إن الفرد مبعوث العناية الإلهية.. أو موضع اختيار القدر النافذ كنابليون بونبارت وبيسمارك وهتلر وغيرهم.
إن (التاريخ) ليس مجرد رصد وسرد لوقائع وأحداث، حتى لو كانت أحداثا تتعلق بالمجتمع نفسه، إنما أيضا العمل على تفسير هذه الوقائع والأحداث واكتشاف القوانين الحاكمة والمؤثرة في تطور المجتمعات. فحتى حينما نرصد ونسجل تحولات وتطورات مجتمع ما، فإن ذلك وحده لا يكفي لكي نسمي ما نكتب (تاريخا).


كاتب وإعلامي بحريني

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .