في هذا الجزء الثاني من المقالة، نحاول تجاوز إشكالية الهوية والمغايرة بصيغتها المرتبطة بثنائية الأصالة والمعاصرة، من خلال مقاربة من منظور إشكالي يتعلق بمنزلة العرب في التاريخ المعاصر وأدوارهم، في هذه المرحلة شديدة الالتباس في سياق تاريخي عالمي مأزوم ومختلف عن أطروحات القرن العشرين وما قبله. إن عالم اليوم قائم على الاستقطاب والأحادية، شعاره صراع الحضارات ونهاية التاريخ، بما يحمله من إصرار على إقصاء الهويات الحضارية والخصوصيات الثقافية للشعوب: فالرأسمالية الليبرالية هي الخيار النهائي والمركزية الأوروبية قائدة العالم ومرجعتيها نهاية التاريخ، وعلى بقية الشعوب - بمن في ذلك العرب - أن ينخرطوا في العولمة، وما يستتبع ذلك من شروط ولوائح وتشريعات تشمل السياسي والاقتصادي والقيمي، وقد بدت خلال السنوات الأخيرة قاهرة ومفروضة ولها ترجمات على الأرض وصلت في بعض الأحيان إلى الاحتلال.
وهذا طرح مختلف تمامًا عن الطروحات السابقة، بسبب سيطرة نمط حضاري واحد، يحاول الغرب فرضه كخيار وحيد وأخير على الآخر المختلف، في ظل التفاوت الحضاري الحالي بين المسهمين في بناء هذه الحضارة على العلم والعقلانية والحرية والتكنولوجيا والهيمنة الثقافية، وبين من يعيشون على هامش التاريخ أو خارجه، لذلك أصبح الطرح حول مصير الخصوصيات الثقافية والحضارية للأمم والشعوب في ظل هذا الاجتياح الكاسح مختلفًا عن إرادية معادلة الأصالة والمعاصرة. فهل المطلوب أن نتكيف مع الوضع لحاجة الأمة إلى العلم والعقل والديمقراطية والمؤسسات العصرية؟ أم نقاوم محاولات الابتلاع ونقف ضدها، فعالم اليوم تأسس وتطور وتمت صياغته في غيابنا، وتلك مشكلة كبيرة. إن تجاهل الغرب عمليًّا مسألة التنوع مع أنه من أكثر المنظرين لها، واكتفاءه بصياغات ملتبسة ومتناقضة، يجعل من المرجعية الغربية المعيار الأوحد في كل شيء تقريبا. والأمر هنا لا يقتصر على العرب فحسب، بل على ما أصبح يسمى بالجنوب العالمي. ولا شك أن عدم القبول بالتعدد يفضي إلى الانغلاق والتعصب وفوبيا والعنف. وقد رأينا مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي السيد جوزيب بوريل، يتحدث عن الآخر بوصف غريب بتناقض مع سرديات التنوع والتعايش والتسامح: “إن أوروبا حديقة، ومعظم العالم غابة يمكن أن تغزو هذه الحديقة”.