العدد 5884
السبت 23 نوفمبر 2024
banner
“جَمْعَة” الجُمعةِ
السبت 23 نوفمبر 2024

في مزرعة والدهما الذي تُوفي حديثًا، عاش الأخوان مُتحابين منذ الصغر، يرعى كل منهما الآخر، ويتقاسمان المحصول معًا، إلى أنْ نشب الخلاف واحتدم النقاش وعلَتْ الأصوات بينهما واتسعت الفجوة، وبعد قطيعة وخصام استمرّ طويلًا جاء ذلك اليوم الذي طرق فيه باب بيت الأخ الأكبر “عامل بناء” ماهر يعرض خدماته، فطلب منه أنْ ينتهي - قبل رجوعه من سفره الذي سيستغرق أسبوعًا - من بناء سور عال يحجب عنه رؤية بيت أخيه الأصغر الذي يفصله عنه نهر صغير، وفي يوم عودة الأخ الأكبر من سفره، كانت المفاجأة حينما انتهى العامل من تشييد جسر يجمع بين طرفي النهر! وهي اللحظة ذاتها التي خرج فيها الأخ الأصغر مهرولًا إلى بيت أخيه الأكبر قائلًا: تبني جسرًا بيننا رغم إساءتي لك، يا لك من أخ رائع!

نعم.. هي الأخوة التي تجلّت برباطها الإيماني الوثيق وحرص نبيّ الأمة (ص) على ترسيخ مبادئها بُعيد هجرته إلى عاصمة حكمه المدينة المنورة، إلى حيث تبقى علائقها قوية متبادلة مرتكزة على التضامُن والتعاون والمؤازرة تارة، وعلى الصلات المتينة التي تُبنى على المَودَّة والوفاء والإخلاص تارة أخرى، في مظاهر من القوة والثقة والعزّة والمَنَعة التي انصهرتْ في بوتقة التيسير على المُعسِر والتجاوُز عن المخطئ، في أيقونات هي من أعظم النّعم وأوفر ثمار الإيمان على بساط ممتد يعبر عن أثمن كنوز الطبيعة الإنسانية الراقية التي تجاوزت فيها حدود “الأخوة الدّمية” إلى ظلال “الأخوّة المُوازية” التي تنشأ بين الأفراد والجماعات في مراحلها السامية دون الحاجة لروابط الدم والنسب في غالبها.

نافلة:

أثبتت الوقائع المُعاشة من حولنا – مثالًا لا حصرًا - في القُرى، أنّ قضاء الأوقات العائلية؛ يترك أثره البالغ في تعزيز روابط الأخوة الحقّة وفرص التفاعل المؤثر ومظاهر التواصل الصادق حين تُخصّص – جُلّ هذه الأوقات - للتّجمعات المُتشاركة على تناول فنجان قهوة أو سفرة غداء أو وجبة عشاء أو احتفال بإنجاز أو نجاح بعطاء وسط أجواء نفسية متوازنة واجتماعية إيجابية يسودها الاحترام المتبادل والتعاون الجماعي الذي يسهم حينئذٍ في تقدير الجهود وغرس قيّم الحبّ وتنمية مهارات الحياة. تلك هي مثالاً (جمْعَة) إجازة نهاية الأسبوع التي برز فيها يوم الجمعة مُتصدرًا ببرنامجه العفوي بتجمّعات أبناء وبنات الأسر البحرينية بعد أداء صلاة الجمعة من كل أسبوع، في افتراش سفرة الغداء التي يتسمرّون بعدها لإهداء ما يتيسر من آيات القرآن الكريم أجرًا لأرواح مَنْ مضى من جمعهم، فينصهروا فيما بينهم جسورًا يَسعدون منها بـ “نعيم” الأخوة الدافئ ويجحدون “جحيمها” الحارق.

 

كاتب وأكاديمي بحريني

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية