برزت الأزمة الدولية، بعد أن عجز القانون الدولي والمنظمات الدولية والعلاقات الدولية المؤثرة عن احتواء وحل الأزمات الدولية التي يمر فيها العالم والوطن العربي وفلسطين تحديدا، ما شكل منعطفا تاريخيا في انعدام الثقة بالقانون الدولي والمؤسسات الدولية، مؤكدا الحاجة إلى تشكيل قانون دولي جديد فعال ومؤثر في السلام والأمن والعلاقات الدولية.
الحقيقة أن القانون الدولي اليوم، تجاوز الأسئلة الكلاسيكية للحرب والسلام والدبلوماسية ليشمل حقوق الإنسان والقضايا الاقتصادية والتجارية، والبيئة والاستثمار والضرائب، فهو يوفر مبادئ توجيهية معيارية وأساليب وآليات ولغة مشتركة للجهات الفاعلة الدولية، سواء للدول أو المنظمات الدولية والأفراد، إلا أن ازدواجية تطبيق معايير القانون الدولي، في ظل التغيرات الجيوسياسية والجيواستراتيجية، أفقدت المجتمع الدولي الثقة واليقين والقدرة على التنبؤ بالأهداف المشتركة في الشؤون الدولية، سواء على مستوى العلاقات السياسية أو الاقتصادية.
فازدواجية تطبيق القانون الدولي في العلاقات الدولية وفي مسائل الأمن والسلم الدولي، وحتى في العلاقات الاقتصادية حيث أجبرت الشركات متعددة الجنسيات أن تعيد تموضعها وعملياتها التجارية في أقاليم معينة وفقا لتوجهات سياسية، بالمخالفة التامة للقواعد الدولية المتعلقة بالعولمة وبحرية التجارة وانتقال الأفراد والأموال، التي أرستها اتفاقيات منظمة التجارة العالمية لدمج الأسواق التجارية والاستثمارية والمالية، هذه الممارسة أدت إلى فقدان البيئة الدولية قواعد واضحة وحاسمة في أوقات السلم والأزمات، خاصة بعد أن وقفت الأمم المتحدة ومنظوماتها، بما فيها محكمة العدل الدولية، عاجزة تماما عن إقرار الأمن والسلم الدوليين سواء في المسائل السياسية أو الاقتصادية.
تلك المسائل شكلت مرحلة تاريخية انتقالية، على إثرها نادى الغرب قبل الدول العربية: ما هو إذن القانون الدولي؟ وما هي قواعده؟ وما هي آلياته التي يمكن من خلالها تنفيذ القانون الدولي؟
وإن ممارسة الازدواجية في تطبيق وتنفيذ قواعد القانون الدولي، أدت بالحقيقة إلى مضاعفة الأزمات وزيادة النزاعات الدولية وزعزعة الاقتصاد العالمي وتباطؤ التنمية بل وأفقد القانون والمنظمات الدولية هيبتها والثقة في فاعليتها والغاية من إنشائها، وهي مسائل سيترتب عليها حتما في المستقبل القريب العديد من التبعات والنزاعات القانونية والسياسية والاقتصادية، تلك المسائل دعت الدول الغربية، ومنها فرنسا وبعض الدول الأخرى، إلى ضرورة إعادة صوغ قانون دولي جديد، بما في ذلك إعادة هيكلة الأمم المتحدة من حيث الشكل والمضمون وإجراءات التصويت المتعلقة بالمسائل الدولية، ليكون قادرا بشكل فعال وعادل على إدارة المستقبل الرقمي، الذي تبدلت فيه قواعد اللعب السياسي والاقتصادي وفق التغيرات الجيوسياسية والجيواستراتيجية بعد نشوء تكتلات سياسية واقتصادية مختلفة عما مضى، وتوفر قواعده إطارا فعالا وحقيقيا للتعاون الدولي في مختلف القضايا، ويعزز فعليا الأمن والسلم الدوليين، ويكون شريكا حقيقيا للتنمية المستدامة في عموم البيئة الدولية.
وإن ازدهار المجتمع الدولي ككل يعتمد على ازدهار أجزائه، فالرفاه السياسي والاقتصادي والاجتماعي للأجيال الحالية والمقبلة يعتمد أكثر من أي وقت مضى على التعاون بين جميع أعضاء المجتمع الدولي، على أساس المساواة في السيادة والحقوق وإزالة الاختلال القائم بينهم.
فمشكلة القانون الدولي الأساسية، إن وضع أسسه ومبادئه لم يشترك فيه العالم ككل، وإنما تم وضعها من قبل الدول الكبرى دون الدول والمجتمعات التي كانت تحت الاستعمار، فكانت قواعد القانون الدولي غير فعالة دائما في مواجهة الاستعمار الاستيطاني؛ لأنه لم يكن يهدف قط إلى تحدي الدول المستعمرة وتمكين المجتمعات المستعمرة من أي حقوق إنسانية أو سيادية أو اقتصادية؛ لأنها كيانات لا وجود لها ولا اعتبار في القانون الدولي، ولم تكن أي دولة استعمارية استيطانية ملزمة ومسؤولة قانونا بمواجهة ماضيها. وحتى التعويضات التي قبلتها ألمانيا على مضض عن الإبادة الجماعية لقبيلة الهيريرو والناما (التي عُرضت طوعا على دولة إسرائيل) لم تكن ملزمة قانونا، ولا التعويضات التي تدين بها فرنسا لهايتي وجزء كبير من غرب إفريقيا أو إنجلترا المستحقة لدول البحر الكاريبي والكثير من التعويضات شرق وجنوب إفريقيا يمكن تحقيقه من خلال القانون الدولي.
فالنظام الدولي الحالي، لا يمتلك لغة للتعامل مع الأسس الاستعمارية والاستيطانية، بل تم تصميمه خصيصا لتطبيع الحياة ما بعد الاستعمار، لذلك لا يمكن في العصر الحديث تصحيح القصور الجوهري في قواعد القانون الدولي من خلال مجرد الإصلاحات، بل إن الأمر يتطلب إعادة هيكلة كاملة للأساس الذي بني عليه هذا النظام، ليتناسب مع عصر السيادات وحقوق الإنسان وعدم التمييز، ولا ينبغي لنا أن نعزل انتهاك القواعد عن السياق التاريخي الذي تحدث فيه. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الشعوب وليس الحكومات التي وقعت ميثاق الأمم المتحدة، قد أعلنوا الطابع الإلزامي للأعراف التي اعتبرت أساسية، ووصفوا انتهاكها بأنها مخالفة للقانون وقد تكون جريمة دولية، هذا هو السيناريو المرعب الذي نواجهه: العودة إلى القرن التاسع عشر بأسلحة القرن الحادي والعشرين.
إن وحدة مصيرنا يجب أن تقودنا إلى صياغة مؤسسية، ديمقراطية وقوية بشكل متزايد، لمواجهة المشاكل المشتركة مع الأخذ في الاعتبار مبدأ التضامن. ولا ينبغي للأقوى أن يكون فوق القانون الدولي، ولا ينبغي أن تُفرض ادعاءاته من جانب واحد.
إن تغيرات جذرية تحدث في العالم، ويجب أن يتغير معها القانون الدولي. هناك مجال للتغيير الهيكلي في محتوى وإجراءات القانون الدولي في المستقبل، والذي يجب أن يصبح قانونا دوليا للأمن والحماية والنماء مع وضع الأمم المتحدة في المقدمة بشكل لا غنى عنه.