يعتبر القانون الدولي الأداة الفاعلة لحسم الخلافات الدولية وتعزيز الأمن والاستقرار الدولي، وتعتبر الأمم المتحدة إحدى الركائز الأساسية لتطوير وإنفاذ القانوني الدولي، والجمعية العامة ومجلس الأمن هما المعنيان بتقرير وتنفيذ المبادئ والأهداف التي حددتها حصرا المادة (الأولى) من ميثاق الأمم المتحدة ومنها حفظ السلم والأمن الدولي، وقمع أعمال العدوان، وإنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام مبدأ المساواة في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها حق تقرير مصيرها.
وقد تضمنت ديباجة الميثاق حقيقة قاطعة بالنص: “نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب... وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد... وأن نبيّن الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي..”
هذا النص التمهيدي بالديباجة، يؤكد أن شرعية ميثاق الأمم المتحدة وقوته وقيمته القانونية تستمد من الإرادة الجماعية للشعوب وليس الحكومات حيث نص على “نحن شعوب الأمم المتحدة” ولم ينص على “نحن حكومات العالم”، وأن القرارات المتخذة يجب أن تكون متوافقة مع الالتزام برفاهية الأمم والشعوب واستقرار الأمن والسلم الدولي، ومن ثم فإن استخدام أي “فيتو” يتعارض مع الرأي العام للشعوب سوف يتعارض بشدة مع ميثاق الأمم المتحدة.
من جانب آخر، فإن مشروعية استخدام “حق النقض” في مجلس الأمن وفق القواعد الآمرة للقانون الدولي، مرتبط وجودا وعدما بوجوب عدم خروجه أو تعارضه مع الأهداف الرئيسة التي حددتها المادة (الأولى) من الميثاق أو الالتزامات الدولية التي من أجلها منح حق النقض للدول دائمة العضوية، وإلا فإنه سيكون تجاوزًا للحدود وللسلطة التي من أجلها منح حق النقض ويجعل شرعيته موضع شك.
فقد برزت مؤخراً، مخاوف قانونية بشأن ديناميكيات التصويت داخل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تثير تساؤلات حول مدى توافق القرارات مع أهداف الميثاق والقواعد الآمرة للقانون الدولي والالتزامات الدولية للدول.
أمام التشابك المعقد للعلاقات الدولية وتعارض المصالح مع المصالح الدولية الأولى بالرعاية، أصبح من الأهمية للوقوف على شرعية استخدام الفيتو، التأكيد على المبادئ الأساسية للميثاق وعما اذا كانت قرارات مجلس الأمن تحقق الأمن والسلم الدولي من عدمه ومدى اتفاقها مع القواعد الآمرة للقانون الدولي والالتزامات الدولية. إن ميثاق الأمم المتحدة ذاته قائم على الإرادة الجماعية للشعوب، وحق النقض “الفيتو” إنما منح للدول دائمة العضوية بمجلس الأمن مقيدا بتحقيق غرض أساسي ومحدد وهو فرض السلام والأمن العالميين ومنع الصراعات وفق ما نصت عليه المادة (الأولى) من الميثاق، وذلك يتطلب التزاما صارما من الدول بالعمل من أجل المصلحة العامة الدولية وليس المصالح السياسية الضيقة للدولة المعنية وأن يستخدم حق النقض في الأغراض التي حددها الميثاق. وبالتالي، فإن استخدام “الفيتو” ضد الرأي العام العالمي المنصوص عليه في ديباجة ميثاق الأمم المتحدة أو ضد الاستقرار والسلام أو استخدامه من قبل الدولة المشاركة بشكل مباشر أو غير مباشر في الصراع بالمخالفة لما نصت علية المادة (27/3) من الميثاق، يجعل شريعة “الفيتو” محل شك من الناحية القانونية.
فالسعي الجاد إلى تحقيق السلام الدولي، يتطلب ضرورة التدقيق في نتائج التصويت داخل مجلس الأمن، خاصة عندما يكون هناك تعسف في استخدام حق النقض أو لا يؤدي القرار إلى تحقيق أهداف الميثاق أو أن يكون هناك تضارب للمصالح واضح للعضو المعني بما يوجب عليه قانونا الامتناع عن التصويت على القرارات ذات الصلة لضمان الحياد ومنع القرارات التي تحركها مصالح وطنية ضيقة يجب ألا تعلو على المصالح الدولية أو تضر بها، خاصة في المسائل المتعلقة بجرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب والعدوان باعتبار أنها قائمة على أساس قواعد آمرة بالقانون الدولي.
فالأطر القانونية التي حددها ميثاق الأمم المتحدة، لا تجعل استخدام حق “النقض” مطلقا وإنما هو مقيد بضوابط تحقيق مقاصد وأهداف الميثاق وعدم إساءة استخدامه بالمخالفة لنصوص واضحة وردت بالمواد 1، 24، 27/3، 99 والمادة 103 من الميثاق، فمجلس الأمن ملزم وفق الفقرة 2 من المادة (24) بالعمل في أداء واجباته وفقا لمقاصد الأمم المتحدة ومبادئها وأن يستخدم سلطته حصرا لتحقيق هذه الأهداف.
إن استعمال حقّ “النقض” في المسائل التي تحرّم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب والعدوان تتعارض قانونا مع القواعد القانونية الآمرة وهو موقف أكدت عليه محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية حيث تبنّاه القاضيان في محكمة العدل الدولية (جنينغز وفيرمانتري) في قضية لوكربي، وأشارت الغرفة الاستئنافية للمحكمة الجنائية الدولية الخاصة ليوغوسلافيا إليه في حكمها الصادر في قضية تاديتش، حيث أكدت خضوع مجلس الأمن ذاته لقواعد أحكام القانون الدولي الآمرة، ومن ثم فإن حقّ النقض (الفيتو) لا يعني مطلقاً حق أعضاء مجلس الأمن استخدامه خارج الالتزام بالقواعد الآمرة للقانون الدولي أثناء قيامهم بأعمالهم داخل مجلس الأمن، ويدل على ذلك العبارات الواردة في الميثاق على أنّ عددا من سلطات وصلاحيات مجلس الأمن ليست مطلقة.
الحقيقة أن الدول التي أنشأت الأمم المتحدة ذاتها وأقرّت للدول دائمة العضوية بتلك الصفة وبحقّ النقض، ليس بمقدورها قانونيا أن تمنح تلك الدول استثناء باستخدام السلطة للإخلال بالقواعد الدولية الآمرة والتزاماتها الدولية.
فالمادة (24/1) من الميثاق، أناطت بمجلس الأمن المسؤولية الأساسية في حفظ السلم والأمن الدوليّين “نيابة” عن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، الأمر الذي يعني قانوناً وعملاً أنّ مجلس الأمن بصفته جهازا يتصرّف بالنيابة عن الدول، لا يملك البتة الإخلال بقواعد دولية آمرة، إذ لا يجوز وفق قواعد القانون الدولي “التفويض” أو “الوكالة” في مخالفة القواعد الآمرة.
بالاستناد إلى ما سبق، يتضح أنّ “الفيتو” لا يجوز أن يتعارض مع مقتضيات المادة (الأولى) و المادة (24) من ميثاق الأمم المتحدة، وإن إخلاله بقواعد دولية آمرة يؤدي إلى حجب مجلس الأمن عن النهوض بمسؤوليته الأساسية المتمثّلة بحفظ السلم والأمن الدوليين، وهذا ما لفت إليه الأمين العام للأمم المتحدة الدول دائمة العضوية في القرارات التي أصدرها مجلس الأمن مؤخرا بمناسبة ممارسة الأمين العام لصلاحياته الواردة في المادة (99) التي تجيز إليه الحق في تنبيه مجلس الأمن إلى أية مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ السلم والأمن الدولي.
ومن الأسباب الأخرى التي تجعل الفيتو مشوباً بعدم المشروعية، أن ينطوي على إساءة لاستعمال حقّ النقض المحظور قانونا بموجب أحكام ميثاق الأمم المتحدة، خاصة وأنّ المادة (24/2) من الميثاق توجب على مجلس الأمن أن يقوم بأداء مسؤولياته بما يتفق مع أهداف الأمم المتحدة ومبادئها.
ومن بين تلك الأهداف، حفظ السلم والأمن الدوليين، واحترام حقوق الإنسان وحقّ الشعوب في تقرير المصير، وهذه المسائل جميعها تتصف بأنها من القواعد الدولية الآمرة وهو ما دفعت به فعلا بعض الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن بإساءة استعمال حقّ الفيتو ووجوب تنفيذ الدول الأعضاء التزاماتها الناشئة عن الميثاق بحسن نيّة الذي يوجب على الدول في مجلس الأمن مراعاته عند استعمال حقّ النقض.
فحق الفيتو مقيد غير مطلق، ومشروعيته تبقى محل شك في حالة استخدامه فيما لا يحقق الأغراض التي نص عليها الميثاق، وفي حالة إساءة استخدامه بالمخالفة للقواعد الأمرة في القانون الدولي والالتزامات الدولية بما في ذلك تصويت الدولة المشاركة بشكل مباشر أو غير مباشر في الصراع، وجميعها قواعد نص عليها الميثاق بعبارات ولغة واضحة.
إن الدول الخمس الدائمة العضوية لديها التزامات جوهرية بموجب الميثاق - فضلا عن القوانين الدولية الإنسانية وقانون حقوق الإنسان- بعدم تقويض فعالية الأمم المتحدة أو مجموعة القوانين الدولية الآمرة، وأصبح استخدام حق النقض دون ضوابط قانونية يعرض مصداقية مجلس الأمن وقدرته على الاضطلاع بمسؤولياته في التصدي للأزمات الدولية للخطر ويتعارض مع مبادئ الديمقراطية والمساواة في السيادة بين الدول الأعضاء، ويثير الجدل حول شرعية مجلس الأمن الذي تعتبر بنيته اليوم غير معبرة عن الواقع الجيوسياسي في القرن الـ21- وهو ما دفع البعض للمطالبة بإصلاح جذري لهذا النظام.
الحقيقة، أن التجارب العملية التي مر بها المجتمع الدولي في الآونة الأخير أظهرت وجود نقص حاد في القوة الإلزامية لقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن خاصة وإن كان الطرف المعني أو الصادر ضده القرار ضمن الأعضاء الدائمين أو يتمتع بحمايته وهو ما يمثل عائقا دون صدور قرار ضد هذا الطرف حتى لو أجمع عليه جميع الأعضاء ما عدا ذلك العضو الدائم.
ومن ثم، فقد آن الأوان لإعادة النظر في هيكلية نظام الأمم المتحدة ومجلس الأمن وعلى وجه الخصوص حق النقض “الفيتو” بما يحقق الأهداف والمبادئ التي أنشئت الأمم المتحدة من أجلها وأهمها منع الحروب وتهديد السلم الدولي أو الاخلال به.
هناك عدة خيارات مطروحة حول الإجراءات المقترحة لتعديل نظام الفيتو، من بينها اقتراح فرنسي تم مناقشته بمؤتمر حضرته في باريس جمع نخبة من السياسيين وخبراء بالقانون الدولي، تناول صياغة اقتراح مقيِّد لحق النقض يتضمن تعهد الدول دائمة العضوية طواعية بعدم استخدام الفيتو في حالات الجرائم الجماعية وجرائم الحرب والإبادة.