دول تجتمع في عواصم دول أخرى لمناقشة مسودة دستور دولة أخرى، وتحدد طبيعة النظام والثوابت والقيم والأهداف وكل تفاصيل النظام السياسي والاجتماعي وتوجهاته الحالية والمستقبلية بالنيابة عن الدولة والمجتمع. هذا وجه واحد من وجوه الفوضى الخلاقة الموعودين بها، وأحدث وجه من وجوه الهمجية الجديدة. في العهود الماضية كان الانتماء للوطن عقيدة والدفاع عنه واجبا.. وفي النظام الدولي الجديد صار الانحياز ضد الأوطان فضيلة، والوطنية الوحيدة التي يسمح بها النظام الدولي الجديد القائم على القواعد هي تلك النعرات البدائية الاقتتالية التي تشطر الوطن إلى قطع لا متناهية.
السيادة الوطنية لم يعد لها وجود، قالوا لابد من حرية مرور رأس المال، وقالوا لابد من حرية مرور أحذيتنا فوق رؤوسكم وصدوركم، وحدها “القوة الغاشمة” يحق لها أن تصدر الأوامر وتحدد “الصالح والطالح”. السيادة التي تغنت بها دساتير دول العالم لم يعد لها أثر، وأصبح الساسة والدبلوماسيون أقل “دبلوماسية”. انسحبت اللغة المهذبة وحلت محلها لغة الأمر والنهي (لغة حق الإبادة وحق الترانسفير وحق الحرب الوقائية)، لم يعد واردا أن تسمع بين الدبلوماسيين جملا من نوع “إن حكومتنا غير مسرورة من سعيكم”، بل صار يتم اقتحام الموضوع مباشرة “إذا لم تستجيبوا لطلبنا سنقصف رؤوسكم”، قوانين البلدان ومؤسساتها لم تعد مهمة، القرارات التي تمليها دولتان هي القانون وهي الشرعية، يكفي أن تتحرك في الداخل مجموعات مسيرة حتى تتحرك الجيوش والأساطيل والخبراء الأمميون، ولأول مرة في التاريخ أصبحنا نستمع إلى مصطلحات من نوع “حق التدخل”.
وفي هذا المناخ الدولي المريض فقدت العلاقات الدولية مناخها الإنساني المتحضر.. وصار عمل الجواسيس عملا محمودا يستوجب الفخر والثناء.. فمنذ آلاف السنين كانت هناك أنظمة تسقط وعيون ترصد وجواسيس متسللون وخناجر ملغومة.. لكن لم يكن أي نظام يعترف بوجود هذه الكائنات الكريهة، وكانت أرخص تهمة يمكن أن تقتل إنسانا هي كونه جاسوسا، وعندما كانوا يتحدثون عنهم يتحدثون عن مردة وشياطين وسحرة.. أما اليوم ففي زمن حق التدخل فإن الحديث عن انتهاك سيادة الدول صار “جميلا ومشروعا”.. إنه زمن البلاء المبين.
كاتب وإعلامي بحريني