أحد أهم وربما أخطر الأسئلة التي تقابل واقعنا المعاصر، السؤال الخاص بثقافة التغيير إلى الأفضل، والسير نحو حضارة أكثر “إنسانوية”، قادرة على القفز فوق العقبات العصرية والعنصرية الآخذة في التصاعد شرقا وغربا. علمتنا العقود الثلاثة المنصرمة أن الرهان على مؤسسات المجتمع المدني، والهيئات الحوارية الدولية، رهان جيد، ناجح وفالح، في تغيير الأوضاع وتبديل الطباع، ويساعد بشكل أو بآخر الحكومات الوطنية، في دعم مختلف مناحي الحياة.
من بين أهم المؤسسات المعاصرة، يأتي مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات “كايسيد”، الذي شارك في الأيام القليلة الماضية بالاحتفالات التي جرت في المنامة، لتوزيع جوائز المجلس العربي لشباب العالم في النسخة الأولى، التي نظمها الاتحاد العربي للتطوع بالتعاون مع جامعة الدول العربية، وجامعة الأمير محمد بن فهد، مع العديد من الشركاء المحليين والدوليين. ومنذ أن تأسس المركز العالمي للحوار “كايسيد”، وهو يعمل على إتاحة الحوار بين أتباع الأديان والثقافات للإسهام في إيجاد عالم يسوده الاحترام والسلام بين المجتمعات. ولعل ما يميز “كايسيد”، هو رؤيته المتجددة ومواكبته الأحداث الجارية في العالم، وتعبيد الطريق أمام الأجيال الشابة لمزيد من الاتفاق عوضا عن الافتراق، وليكن الشرح لا الجرح طريقهم في الحال والاستقبال. وفي هذا السياق، أطلق “كايسيد” العام 2020 برنامجا للمشروعات الحوارية، ووفر الفرصة لكل شباب العالم العربي، من المحيط إلى الخليج، وقد كان هذا الوقت صعبا على العالم برمته، سيما أنه واكب تفشي جائحة “كوفيد 19” الكارثية. وكان ولا يزال الهدف الرئيس لهذا البرنامج هو توفير الدعم الأدبي أولا، إذ إن “كايسيد” مظلة أممية وارفة الظلال، تكتسب يوما تلو الآخر مصداقية وموثوقية كبرى، وسط المؤسسات الدولية العالمية.
عطفا على دعم مادي، هدفه الأساس هو توفير دفعة تساهم في تشجيع الشباب على السير في أكثر من طريق.
ولعله من دون تهوين أو تهويل، يظل الهدف الأول لهذا البرنامج، هو تعزيز مواجهة خطاب الكراهية، ذاك الذي يستغل اسم الدين للتحريض على العنف محليا وإقليميا.
لم يعد سرا أن هناك توجهات تسود بقاعا وأصقاعا واسعة في العالم، تنحو لجعل الفكر الديني مطية لنزعات سياسية، بل ودوغمائية متشددة إلى حد التطرف، تسعى لإقصاء الآخر بعد عزله، وتلامس القضاء عليه أدبيا وتاليا ماديا، وهذه هي الكارثة لا الحادثة.
يبدو برنامج كايسيد للمشروعات الحوارية، دربا في تعزيز تضامن إنساني لأبناء الأديان المختلفة، لاسيما في أوقات الأزمات، وما أكثرها في عالمنا المعاصر، سواء كانت من غضب الطبيعة، أو جراء آثام الإنسانية، وما الحروب المشتعلة من حولنا إلا مثال سيئ على تلك الأزمات.
يعطي “كايسيد”، أبدا ودوما، أفضلية وأولوية للمبادرات التي تركز على المشاركة المجتمعية والاستجابة للأزمات الوطنية، خصوصا تلك التي تترك تأثيرا سلبيا كبيرا على الفئات المهمشة أو الأقل حظا في المجتمعات المعاصرة، وبنوع خاص كبار السن، والأطفال والنساء، ناهيك عن الأشخاص ذوي الظروف الصحية الخاصة واللاجئين وغيرهم.
وقبل نحو أسبوعين، عاود “كايسيد” الإعلان عن فتح أبوابه لمزيد من هذه المشروعات الخيرة والمغيرة، خصوصا للذين يعملون في دوائر تعزيز المواطنة المشتركة وترسيخ جذور السلام المجتمعي، وتجسير الخلافات بجسور من التفاهم الإيجابي الخلاق في العالم وليس عربيا فحسب.
منذ العام 2020، نفذ “كايسيد” نحو 40 مشروعا حواريا في عدد كبير من الدول، كل مشروع بينها شاهد على قوة الحوار في خلق عالم متنام.
يسعى “كايسيد” حكما إلى تمتين وتقوية أواصر العلاقات بين الأمم والشعوب المختلفة عرقيا وعقديا، وفي الوقت عينه يتخذ من قضايا التراث الثقافي وإحيائه والحفاظ عليه، عطفا على الحفاظ على المواقع الدينية، ذات الإرث التاريخي، قاسما مشتركا لخلق مساحة تفاهم وتعاون، ما ينشر أريج التسامح والتصالح، عوضا عن التعصب والخصام، ونشوء النزاعات وسطوة الكراهيات.
ومن نافلة القول إن بصمة مشروعات “كايسيد” الحوارية، تجنب الأجيال المعاصرة، خطر فكرة التوحيد الثقافي أو التنميط الثقافي، ذاك الذي يقود إلى شوفينيات صاعدة، وقوميات بازغة من جديد، وأصوليات ضاربة في القدم.
هنا يبقى الطريق عبر الرجاء، عنوانا مريحا وفسيحا عوضا عن دروب اليأس وظلامية الشك في الآخر.
كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية