في كلمته التاريخية الوازنة التي ألقاها صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، قدم سموه، بحضور قادة وزعماء العالم، مرافعة بليغة حاذقة ورفيعة باسم الإنسانية جمعاء؛ وعرض سموه أطروحة حضارية شاملة وعالية المستوى، باسم البشرية التي تعاني من ويلات الحروب ومن صراعات الجيوش والسياسات المتناقضة، ومن غياب الرؤية الحكيمة التي تكاد أن تكون هي السائدة في مشارق الأرض ومغاربها..
تحدث سموه بكثير من الصراحة وقدر وافر جدا من الشجاعة، داعيا لإصلاح الأمم المتحدة لضمان قدرتها وكفاءتها على خدمة البشرية والحضارة الإنسانية كما تعبر عنها “الحقائق الجيوسياسية الحالية”؛ مؤكدا سموه أن يكون هذا الإصلاح شاملا ومدفوعا بالإجماع، وأن يشمل جميع هيئات صنع القرار في الأمم المتحدة، بما في ذلك مجلس الأمن.
وقال سمو ولي العهد رئيس الوزراء وهو يشخص أمراض هذا العالم المتناحر، إن هناك حكومات تتجاهل النظام العالمي القائم على القواعد الراسخة، بينما تسعى إلى سياسات “متجذرة حصريا في المصلحة الذاتية”.. وأمام تغول هذا النوع من الحكومات المناهضة للحقوق الإنسانية والعدالة الدولية.. هناك التنظيمات المناهضة للحياة كما نعرفها من خلال أيديولوجياتها المتطرفة والمارقة.. وفيما تعمل ممارسات الأولى على إيقاف عجلات التنمية البشرية والإنسانية وعرقلة مسيرة التنمية المستدامة؛ فإن الثانية تجعل من الإنسان ومسارات التنمية في المجتمعات البشرية هدفا لأحكامها الجزافية وافكارها الراديكالية القاتمة السواد وعقائدها القائمة على الكراهية..
وبين هذه وتلك تعيش البشرية في قلب عاصفة من الحروب المتعددة، والجبهات المفتوحة على القتل والدمار والتهجير، حيث تتعطل التنمية؛ وتغيب العدالة، وتتراجع المفاهيم الإنسانية، وتنهمك دول قوية في تفريخ المزيد من سياسات التعنت والتغول على الدول الأخرى، وتمارس طغيان استخدام القوة الغاشمة لفرض مفاهيمها المريضة وشروطها المناهضة للعدالة وجودة الحياة ومبادئ حقوق الإنسان..
واستحضر سموه في مرافعته الإنسانية والواقعية صورتين من صور الحروب التي تعصف بالإنسان وتهزأ بحقه في الحياة: صورة غزة والشعب الفلسطيني الذي يعيش حالة متصاعدة من الكارثة غير المسبوقة، فيما يقف العالم كله عاجزا عن وقف طغيان العدو المتجبر والمتغطرس.. ثم في الجهة الأخرى، جهة الغرب المتطور في الحداثة والحضارة نرى صورة أخرى للحرب التي لم تتوقف منذ سنتين في أوكرانيا.. وعلى تخوم هاتين الصورتين؛ تعيش شرق آسيا تحت تهديد المخاوف من حروب عسكرية جامحة.. وتعيش إفريقيا في عوالم سوداوية من الفقر والصراعات العرقية والعنصرية في أكثر من دولة، مؤكدا سموه أن “تأثيرات هذه الصراعات تتحملها البشرية كلها؛ الأسر والأفراد والمجتمعات وأجيالنا القادمة”، فيما يتم في كل يوم تقويض جديد للتنمية واغتيال متعمد مع كل صباح لمفهوم الحياة، وإهدار متواصل للفرص وتهديد لا يهدأ لآمالنا ومستقبل أبنائنا!
هكذا، تستمر مرافعة سمو ولي العهد رئيس الوزراء حفظه الله؛ لتقرع سمع العالم أجمع؛ بأنه لا فرق أمام هول الحروب وكوارث الصراعات الجيوسياسية؛ بين شعوب تعيش تحت خط الفقر، وما قبل عهود التنمية، وبين شعوب تعيش أوج الحضارة المدنية والتكنولوجية وقمة الرفاهية.. فالمآسي على تعددها واحدة، والكوارث على تنوعها، هدفها قتل الإنسانية وتدمير البشرية واغتيال الأمن والسلام وتهديد استقرار الشعوب واغتيال تنميتها..
وبسجيته الفريدة وعقليته الفذة وشخصيته المبادرة التي عرفناها هنا في البحرين واختبرناها لسنوات حافلة بالإنجازات والمبادرات الحصيفة.. بهذه السجايا وبكونه ممثلا للدولة التي ترأس القمة العربية؛ يتجاوز سمو ولي العهد رئيس الوزراء من موقف التشخيص العميق والتوصيف الدقيق لمشكلات العالم ومعاناة البشرية، إلى الفعل القويم والإصلاح المشترك، فيطلق أمام العالم مبادرة جادة ولازمة وضرورية للإصلاح المنشود، ولوضع أمور الشعوب وشؤونها في نصابها القويم.. يطلق سموه حفظه الله مبادرته داعيا “جميع الدول إلى الانضمام لمبادرة هامة، تهدف إلى تعزيز الجهود لتحقيق سلام عادل وشامل ودائم في المنطقة”، مؤكدا سموه وجوب “إعلاء راية الدبلوماسية والحوار، حيث إن العنف العشوائي والصراع والانقسام سيبعدنا أكثر عن هذا الهدف النبيل”..
كما يطلق سموه مبادرة ثانية، تحمل في آفاقها مشاركة مملكة البحرين في بناء مشروع عالمي يهدف إلى إصلاح الأمم المتحدة؛ وتعزيز دورها لتكون “عمود الاستقرار” في هذا العالم، ولتعمل هذه المنظمة الكبرى على القيام بكامل دورها ورسالتها “في منع وقوع المآسي؛ من خلال صياغة وتطبيق القوانين الدولية، وتعزيز العمل والتوافق الدبلوماسي، والاستثمار في برامج التنمية، ونشر بعثات حفظ السلام، والعمل كحصن راسخ يعكس روح المسؤولية المدنية الدولية”..
وفيما كان غالبية زعماء وقادة العالم يستعرضون مشكلات دولهم وما تعانيه من حروب وويلات وتراجع للتنمية وغياب للأمن والسلام.. فإن سمو ولي العهد كان فخورا وواثقا بالتأكيد، وصادقا للغاية، وهو يعرض أمام العالم صورة زاهية حقيقية وعادلة لمملكة البحرين برسالتها الحضارية ورؤيتها الإنسانية ومبادراتها التي تحترم التعايش بين الشعوب والأمم، وتعمل بشكل متواصل على تعزيز أشكال التنمية المستدامة في المنطقة، ومن أجل مستقبل الإنسان وصون كرامته وسلامة بيئته وتعايش حضاراته وثقافاته، وضمان حقه الطبيعي في العيش الكريم والحياة القويمة.. يحدث ذلك رغم كل الظروف الصعبة التي تمر بها المنطقة، والتحديات الكبيرة التي تواجهها المملكة، والتي أشار لها صاحب السمو الملكي ولي العهد رئيس الوزراء، فإن مملكة البحرين تمكنت من احتلال مكانة مرموقة ورفيعة المستوى في المجتمع الدولي بقيادة وحكمة جلالة الملك وبعقول وسواعد البحرينيين، الذين يدركون مع قيادتهم أن المعوقات كثيرة والظروف صعبة، إلا أنهم مع مليكهم وحكومتهم يثبتون دائما للعالم وللمنطقة ولأنفسهم أنهم قادرون على تجاوز التحديات ومواجهة الصعوبات وخاصة الاقتصادية، والخروج بوطنهم من الأزمات بشكل أقوى ومن المشكلات بشكل أكثر ثقة بالمستقبل، وأكثر اعتزازا بالحاضر، وما قادنا إليه من تاريخ بهي وتراث إنساني رفيع..
يقول سموه: “في مملكة البحرين، التزمنا بوضع المواطن محورا أساسيا لجميع برامج التنمية الوطنية. وعملنا بلا كلل لضمان صقل مهاراتهم لتحقيق الازدهار والنمو لأنفسهم ولمجتمعهم... لقد أعطينا الأهمية للأولويات التي توحدنا جميعا: الإسكان، والرعاية الصحية، والتعليم، وتوفير فرص العمل، وتحقيق الازدهار. وركزنا عمل الوزارات والجهات الحكومية على مجموعة من البرامج ذات الأولوية، وشاركنا القطاع الخاص والمجتمع المدني، ونسجنا معا روح فريق واحد يركز على تحقيق هذه البرامج”.
هذه البحرين حين تتحدث عن نفسها بثقة وأمل وطموح واقتدار.. وهذه قيادتها حين تمسك بكل حصافة وحكمة زمام أمور تشغل البشرية فتعرضها ببلاغة وافية وتشخيص عميق ورؤية حكيمة.. وهذه هي البحرين حين تحمل الحكمة والرؤيا الثاقبة للعالم والبشرية في العصر الحديث، تماما كما كانت مياهها وبحرها يحمل للعالم بذرة الخلود والحياة!