لم ير العالم أشدّ ظلما ولا أقسى تدميرا مما يحدث في قطاع غزة والمخيمات في الضفة الغربية، ولاسيما مخيّم جنين، هذا المخيم الذي دخل على خط الإبادة والتدمير الشامل منذ أيام.. هذا المخيم الذي تحوّل إلى غزة صغيرة في قلب الضفة الغربية ليتصدّر المشهد من جديد؛ فمخيم جنين يملك تاريخا طويلا من النضال والصمود مثلما يملك فيه الاحتلال الإسرائيلي تاريخا أسود من القتل بدم بارد والتهجير والفساد في الأرض.
يقع مخيم جنين في مدينة جنين إلى الجانب الغربي من المدينة، وهو من أقدم مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين، وأُقيم عام 1953، وكان الغرض من إنشائه هو إيواء الفلسطينيين الذين نزحوا خلال الحرب التي استمرّت بين العامين 1948 و1949 في أعقاب إعلان قيام دولة الاحتلال، ويمتدّ مخيم جنين على مساحة 0.42 كم مربع، ويسكنه ما يقارب الـ 27 ألف ساكن، وبذلك يعدّ ثاني أكبر مخيّم في الضفة الغربية بعد مخيم بلاطة. وقد جاء هذا الاجتياح الأخير للمخيم بعد سلسلة عمليات أخذت منحى تصاعدياً في المدينة ومخيّمها، وقد أعاد اجتياح مخيم جنين منذ أيام إلى الأذهان اجتياح المخيم عام 2002، واجتياحه عام 2021، ولاسيما بعد تشكّل كتائب للمقاومة في المخيم، وكذلك بعد عملية “نفق الحرية”، والتي أسفرت عن هروب 6 أسرى فلسطينيين من سجن جلبوع وإعادة اعتقالهم في سبتمبر 2021، و”معركة سيف القدس” في مايو 2021. ولم يكن المخيم بمنأى عمّا يجري في غزة منذ السابع من أكتوبر؛ فقد خرج المخيم عن بوتقة التنسيق الأمني، وتحوّل إلى حالة رمزية، لذلك يعمد الاحتلال إلى تدمير هذه الحالة، ومعاقبة أهل المخيم بالآليات والجرافات التي دمرت البنى التحتية وجرفت الطرق وضربت شبكات المياه والصرف الصحي في عملية تدميرية ممنهجة من أجل القضاء لا على المقاومة فقط، إنما على الوجود الفلسطيني كيفما كان.
لقد تحوّل مخيّم جنين ومنذ مدة إلى صورة مصغّرة لما يحدث في قطاع غزة، وهل ينسى كل ضمير حيّ قتل الطفل آدم الغول (8 سنوات) بدم بارد في شارع فرعي في حي البساتين في مدينة جنين، وقد وثّقت الكاميرا هذه العملية الجبانة التي استهدف فيها جنود الاحتلال وهم ينسحبون من المخيم الطفل آدم ابن الثماني سنوات والذي ظنّ أنّ الأطفال، وقد قالوا سلاما، يكونون بمنأى عن العملية العسكرية. لكن هيهات.. إنهم جنود الكيان الصهيوني يا بنيّ.
نعم هذا هو الاحتلال الصهيوني: يعربد من مدينة إلى أخرى، يواصل سياسته الممنهجة لإجبار الفلسطينيين على إخلاء منازلهم والنزوح قسريا إلى اللامكان أو الإبادة، فإن لم تكن بالنار فبالتجويع والحرمان من أساسيات الحياة كالماء والكهرباء والمستشفيات.. لعلّه السيناريو ذاته أمس في غزة واليوم في جنين وغدا في نابلس ولربما قريبا في أريحا وهكذا.
لكن بقدر ما يسعى الاحتلال إلى إخراج الفلسطينيين من الجغرافيا بقوة الحديد والنار، يدخل هؤلاء الأبطال إلى التاريخ بقوة الإرادة والإصرار ليسطّروا أروع البطولات التي تحفظ لعروبتنا بعض ماء الوجه.