في كثير من الأحيان ينظر إلى التعليم كخدمة وسلم للارتقاء المعرفي والاجتماعي، وكجسر للعبور إلى سوق العمل، من دون التنبه إلى أنه خط الدفاع الأول عن وجود الأمم والشعوب والدول والسبيل إلى بناء وتعزيز الهوية ووعي الذات. فالمجتمع الذي لا يمتلك أسباب قوة المعرفة وآليات التحكم فيها وتوظيفها في خدمة التنمية لن يكون بوسعه الولوج إلى حلبة التنافس في السوق العالمي للعمل والإنتاج، كما أن المجتمع الذي لا يمتلك أسباب تأصيل هويته ومنحها معنى ومحتوى في الدورة العالمية بكل أبعادها يكون ريشة في مهب الريح. وإذا كان الانغلاق غير ممكن ويؤدي إلى التحجر، فإن الانفتاح المفرط وفقدان الخصوصية يؤدي إلى الذوبان والتبدد، وهنا تطرح على التعليم مهمة مصيرية في بناء المواطنة وغرس قيم الانتماء، إضافة إلى أدواره التقليدية.
وفي هذا السياق أعتقد أن البحرين حققت خطوات مهمة، منذ انتقال مسؤولية التعليم من كنف المبادرة الخاصة إلى كنف المؤسسة الحكومية، حيث أصبح التعليم حقاً مكتسباً للجميع، وخدمة موحدة يستفيد منها الجميع دون استثناء أو تمييز، مع ضمان تكافؤ الفرص والمساواة. وبذلك خطت البحرين في العقود الأخيرة خطوات كبيرة في مجالات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، لتتبوأ مراكز متقدمة في مؤشر التعليم للجميع ومؤشر رأس المال البشري، إلا أن الحفاظ على هذا المنجز وتعزيزه يحتاج إلى توفير المزيد من الموارد والإمكانيات والشراكة المجتمعية، في سياق الوعي بأن التعليم مسألة أمن قومي.. لأن قوة الدول تعود بالدرجة الأولى إلى قوة التعليم فيها، وأن حسم أي صراع لصالحها في أية منازلة حضارية يكون بالضرورة بواسطة التفوق في التعليم، لذلك تسارع الدول إلى تحسين مراكز طلبتها على الصعيد العالمي، تأكيدا لما للتعليم من مكانة بارزة، باعتباره قوة الحسم الرئيسية في المواجهة الحضارية. وإذا ما نظرنا إلى التجارب الناجحة في العالم، وإلى نماذج التنمية الناهضة، نجد أن نجاحها كان من بوابة التعليم.
وإذا نظرنا إلى الدول الكبرى التي تتصارع على القمة، نجدها تطور من نظم تعليمها باستمرار وتوجه معظم جهودها لهذا الغرض، باعتبار التعليم مولداً للثروة والقوة، وصمام الأمان ومصدر القوة والإبداع والتفوق، كما أنه عملية ارتقائية لتجديد الذات الثقافية والاجتماعية وتحصينها ضد عوامل الوهن، وهو في النهاية خط الدفاع الأول عن الوجود.
كاتب وإعلامي بحريني