منذ أربعة عقود تحديدا، يتابع المرء انتخابات الرئاسة الأميركية، ومن دون مغالاة، يمكن القطع بأن الولايات المتحدة الأميركية لم تشهد انتخابات مثيرة إلى حد الخطيرة على هذا النحو، وهو ما أشرنا إليه في مقال الأسبوع الفائت. اليوم تبدو الحسابات الأميركية أكثر وضوحا، لاسيما بعد انسحاب الرئيس بايدن من سباق الرئاسة 2024، والحديث ما يزال دائرا حائرا عما إذا كانت نائبته كمالا هاريس هي الوجه المفضل لتنال ترشيح الحزب الديمقراطي أم لا. تبدو أميركا اليوم في لحظة اختيار مفصلي، فهي في مفاضلة بين رئيس سابق له توجهات آيديولوجية معروفة، وبين مرشح قادم سواء هاريس أو غيرها، غير مجرب أو مختبر. هل أميركا اليوم في حالة من الرفاهية السياسية بما يسمح لها باختيار المجهول أو اختباره، سيما في ظل القلاقل الداخلية والتشظي المجتمعي من جهة، والساحات الخارجية المفتوحة على سيناريوهات مختلفة، منها ما يتصل بمعارك روسيا، وبعضها الآخر إشكاليات الصين، ناهيك عن ملفات إيران وكوريا الشمالية؟
يميل الكثيرون إلى ترجيح كفة ترامب، سيما بعد أن كتبت له الأقدار النجاة من حادث الاغتيال، وهو ما اعتبر إشارة رمزية من السماء لاختيار الرجل، أو على أقل تقدير هذا ما يؤمن به أنصاره. على أن فكرة فوز ترامب في حد ذاتها قد تبدو إشكالية، ذلك أنه فيما تعجب البعض، فإنها تخيف البعض الآخر، فقد أدرك الجميع خلال ولاية ترامب الفائتة أنه رئيس غير متوقع، ولا يمكن التنبؤ بما يدور في ذهنه في الحال أو الاستقبال. على الصعيد الداخلي الأميركي، ورغم أن الرجل في مؤتمر الحزب الجمهوري، حاول أن يتكلم بلسان المصالحة والمسامحة مع المغايرين، إلا أن الطبع يغلب التطبع كما يقال، ولهذا عاد لاحقا في أول تجمع انتخابي بعد انسحاب بايدن، وجاء في نورث كارولينا إلى لغة الهجوم الحاد، فقد اعتبر أن كمالا هاريس أسوأ من بايدن.
هل يعني ذلك أن ترامب سيضحى حجر عثرة في الداخل الأميركي، يعزز من الصدامات المحتملة بين الأميركيين اليمينيين واليساريين؟
هذا وارد وبقوة، وتزداد المخاوف حال عدم فوزه، إذ سيعتبر أنصاره أنه تعرض لمؤامرة للمرة الثانية، ما يجعل احتمالات الحرب الأهلية الأميركية الثانية أمرا وارد الحدوث وبشدة، وليس مجرد فرضية نظرية، تجري بها المقادير أو لا.
حديث الخارج الأميركي، وموقفه من رئاسة ترامب، أكثر مدعاة للقلق عند الدول الكبرى، لاسيما روسيا الاتحادية والصين الشعبية.
روسيا لم تعلن دعمها ترامب، والمؤكد أن هذا لن يحدث علنا، لكنها سرا ترى أن عودة ترامب إلى البيت الأبيض أمر جيد بالنسبة لها، فهو الرجل الذي يتخذ موقفا رافضا للحرب الأوكرانية، وما تمتلئ به ساحات الأخبار في أميركا، ينم عن أن ترامب قد يفتح دروبا للتصالح مع روسيا، وسينهي حرب أوكرانيا في أسرع وقت.
تبدو فكرة فوز ترامب، مزعجة للغاية بالنسبة لزيلنسكي، ولكل من وقف وراءه، ودفعه لخوض هذه المعركة الخاسرة بكل تأكيد وتحديد، ولهذا بدأ حديثه عن قمة للسلام تنهي الأزمة المشتعلة.
ليس مجانا يود ترامب الخلاص من إشكالية الصراع الروسي - الأوكراني، ذلك أنه يعتبر صراع واشنطن القائم والقادم ليس مع موسكو بل مع بكين.
تدرك بكين جيدا أن ترامب لم ولن يكون صديقها يوما ما، ويعلم أحفاد كونفوشيوس أن الأميركيين يعملون جاهدين على وضع العصا في دواليب العلاقات الصينية الروسية، وفك الارتباط الذي نشأ بينهما بعد عملية أوكرانيا.
يدهش المرء أيضا أن يجد حليفا تاريخيا للولايات المتحدة الأميركية يتمثل في إسرائيل، تستشعر الخوف من فوز ترامب بولاية جديدة قادمة. في مقال بصحيفة “معاريف” الإسرائيلية، يكتب زلمان شوفال، تحت عنوان “بعد تتويج ترامب غير الرسمي على إسرائيل أن تشعر بالقلق” يقول: “إنه بالنظر إلى البرنامج الذي وافق عليه الحزب الجمهوري في مؤتمره، يمكن استخلاص أمور من عقلية الحزب ونوايا زعيمه، فالعنوان الاسترشادي لهم هو “العودة إلى المنطق”، ما يعني أن كل أو معظم ما فعلته إدارة بايدن في السنوات الأخيرة لم يكن مخالفًا للمصلحة الوطنية الأميركية فحسب، بل كان أيضًا غير منطقي من حيث الأهداف التي حددتها الإدارة لنفسها.
هل جاء رد ترامب على رسالة “أبومازن” لتهنئته بنجاته لتؤكد لتل أبيب، أن زمن ترامب لن يكون عهد التماهي كما في أوان بايدن؟ وماذا عن سياسات ترامب في أوروبا والشرق الأوسط؟ إلى قراءة قادمة بإذن الله.
كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية