العدد 5762
الأربعاء 24 يوليو 2024
الأمة الأميركية.. بين العنف والأصولية
الأربعاء 24 يوليو 2024

أحد أهم الأسئلة التي باتت تشغل المجتمع الأميركي، منذ انطلاق الرصاص ناحية المرشح الجمهوري، الرئيس السابق دونالد ترامب: “هل أميركا على موعد قدري مع موجة عنف كبيرة وخطيرة قادمة؟”. المشهد العام الحالي يقطع بأن انتخابات الرئاسة 2024، قد تكون نافذة أميركا على عنف غير مسبوق، لاسيما إذا رفض أحد الطرفين المرشحين للرئاسة، نتيجة التصويت، وأعلن ما يمكن أن نطلق عليه “رئاسة ظل”، وساعتها ستتشظى البلاد بقوة بين قوتين متضادتين، ما يرجح بالفعل فكرة دخول البلاد حربا أهلية.
ولعل الكثير من الذين يتساءلون عن مشهد العنف الحالي في الداخل الأميركي، لا يدركون أن الأمر كامن في النفس الأميركية منذ زمان وزمانين، بمعنى أن العنف والقوة الخشنة هي اللغة الرئيسة التي استخدمها الرجل الأبيض، لتحقيق أهدافه، والتي تمثلت في تصفية وإبادة الهنود الحمر، أصحاب البلاد الأصليين، ودفعهم إلى ما وراء المحيط، والاستيلاء على الأراضي بالقوة الجبرية، وهو المفهوم الذي تعبر عنه كلمة “يانكي”. على أن أزمة الولايات المتحدة الأميركية الحقيقية هذه الأيام تبدو مزدوجة، ذلك أنها لا تتوقف عند إشكالية العنف فحسب، بل تتجاوزها إلى ما يمكن أن نسميه زمن الارتداد الأصولي الديني، والمتابع يقطع بصحة ذلك. على الجانب الجمهوري، شاع وذاع في الأيام القليلة الماضية أن العناية الإلهية هي التي أنقذت ترامب من حادث الاغتيال، وهي التي تعده لقيادة البلاد والعباد، لمرحلة سياسية جديدة. هل هي عودة لمزاوجة بين العنف والأصولية معا، ما يعني أنه ليس على الولايات المتحدة فحسب أن تتهيأ لعالم جديد قادم من الصراعات الدوجمائية، والتي لا تقبل قسمة المطلقات، على غير الأزمات السياسية النسبية التي يمكن حلها بالتفاوض وقسمة الغرماء؟ الثنائية المتقدمة تقودنا للحديث عن الأسس التي قامت عليها الولايات المتحدة، وتكافؤ الأضداد الكامن فيها، والتي يكاد المرء يؤمن أنه أمر كان مقصودا.. ما الذي نعنيه بهذا المشهد؟. 

المقطوع به أن الولايات المتحدة الأميركية أسست أول حكومة علمانية ذات شأن، وقد كان الهدف أن تقود أول مجتمع علماني بحق في التاريخ.
وعلى الرغم من ذلك، فقد كان الكثير من مواطنيها وقادتها، كما هو الحال الآن، متدينين، ومن هنا طفق الأميركيون في أوقات كثيرة يحدثون عن الدنيويات تارة، وعن السماويات تارة أخرى، وغالب الظن أن هذا الأمر سيمضي إلى حين تغير التركيبة الديموغرافية للبلاد، وتراجع سيطرة الرجل الأبيض الوايت أنجلو ساكسون بروتستانت.
تمثل نظرية الحكومة التي قدمها دستور الاستقلال، انفصالا راديكاليا عن التقاليد اليهو – مسيحية، والتي تعود لآلاف مضت من السنين. 
وفي الوقت عينه تستمد الحكومة سلطتها من إجماع المحكومين، وليس من إرادة الخالق.
نزلت حكومة الآباء المؤسسين من كونها أداة غضب الله، إلى كونها اختراعا إنسانيا، يمكن تغييرها حسب رغبة من أتى بها. بل يذهب الدستور الأميركي إلى أبعد من ذلك في لا إلهيته، فهو لا يحفل بالتوسل إلى الله، أو العناية الإلهية، عندما يضع السلطة العليا في تعبير “نحن الشعب”.
ومع ذلك، نرى ملمحا أكثر إثارة، ذلك أنه فوق “الأخضر البراق” مالئ الدنيا، وشاغل الناس، أي الدولار، ذلك المربع الأخضر الزاهي الألوان، يوجد تعبير يعبر عن عمق التواصل مع السماء IN GOD WE TRUST “ في الله نحن نثق”.
يعن للقارئ أن يتساءل مخلصا التساؤل والبحث عن الجواب، أي أميركا يصدق، علمانية الهوية، أم دينية الهوى؟ 
الفارق شاسع جدا، فأميركا الأولى يمكن الوفاق والاتفاق معها وعنها، أما الثانية فتعود بنا إلى أزمنة الحكم الإلهي المقدس، وهذه كارثة لا حادثة. هل من وصفة سريعة، شافية وافية، تستنقذ الولايات المتحدة من الغضب الساطع القادم من بعيد؟
الحل المؤكد هو التمسك بالمجتمع المدني العلماني، الذي يصر على احترام الآخرين، بعيدا عن العقائد والإلهيات، وهذه هي القيمة الأجدر بالحماية، وبأن يفخر بها الجميع ويعملوا على نشرها، وهي لا تخص أي دين، ولكنها تفيد الجميع، عدا أولئك الذين يصرون على “المطلق”، إنها تسامح الجميع إلا أولئك الذين لا يسامحون مع أي اختلاف.

كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية