العدد 5748
الأربعاء 10 يوليو 2024
banner
ثقافة الخوف وصراعات السياسة
الأربعاء 10 يوليو 2024

تستدعي نتائج الانتخابات التي جرت في الأيام القليلة الماضية في العديد من الدول الأوروبية، وكذلك الانتخابات الرئاسية الأميركية التي ستجري في الخامس من نوفمبر المقبل، طرح علامة استفهام مثيرة: “هل تلعب الثقافة دوراً ما بعينه في الصراعات السياسية، لاسيما ضمن سياق ونطاق شيوع وذيوع ثقافة الخوف من الآخر سياسيا، وربما يكون الآخر هذا هو المغاير عرقيا أو عقديا، لونا أو جنسا، توجها آيديولوجيا أو مذهبيا، وبالتالي عدم التصويت له انطلاقا من هذه المعايير الحدية، وبعيدا عن المحددات والمعايير السياسية المتعارف عليها دوليا وتاريخيا، وكفعل خلاق مجرد عن الهوى الشخصي، وملتزم فقط بالعمل من أجل صالح ومصالح الجماهير الغفيرة على حد تعبير عالم النفس الفرنسي الشهير غوستاف لوبون، في رائعته الخالدة “سيكولوجية الجماهير الغفيرة”؟
المؤكد أن هناك علاقة جذرية بين قبول التعددية الثقافية أو رفضها، فالقبول بمثل هذا التنوع، هو غنى في حد ذاته، كفيل بأن يطرد الخوف خارجاً، أما الانكفاء على الذات فحكماً سيولد مسارات الخوف، ويعلي من صيحات الانعزالية، وإغلاق الأبواب في وجه المغاير ثقافياً. هذا الخوف هو الذي يجعل المرء يتقوقع ويبتعد عن مكون فكر الثقافات الأخرى، ومن ثم يأخذ البعض في الشعور بدور الضحية، ويتحول الفعل معه إلى ردات فعل غير منتجة، وهذا ما يقودنا إلى دوائر الرهاب الإنسانوية إن جاز التعبير. ولعل الولايات المتحدة كمجتمع متقدم تقنياً، يعطينا مثالا على الأكلاف العالية والغالية للخوف من الآخر، إذ تبدو هناك مفارقة كبرى في حال ومآل الأميركيين بين الماضي والحاضر. عُرف الأميركيون بأنهم شعب نشأ في حاضنة يطلق عليها “بوتقة الانصهار”، بمعنى أن جميع المهاجرين إليها جمعهم وعاء حضاري واحد، وقد كان الآباء المؤسسون لأميركا يدركون أهمية التنوع والتعددية الثقافية، تلك التي أثرت أميركا من خلال تنافح وتلاقح العقول والثقافات على أرض كنعان الجديدة، كما أطلق عليها.

هذا المشهد قد لا يكون قائماً اليوم، سيما وأن أصوات أميركا الانعزالية هي الأعلى والأكثر ضجيجاً، فلم يعد يعني أميركا أن تكون شرطي العالم أو دركه، وبالتالي لم يعد يعنيها أن يكون نموذجها الثقافي المتجانس هو الأكثر سيادة وريادة، ومن هنا يبدو الآخر خصماً من حسابات التعددية وليس إضافة بناءة لها.
سر من أسرار الخوف من الآخر ربما يكون موصول بالسماوات التي انفتحت والخوف من حالة الانثقاف بين الأمم والشعوب، أي دخول ثقافات بأكملها، على شعوب لا قبل لها بالآخر، أو تخشى من مقارعته، والخشية هنا تبدأ من الثقافة والاقتصاد، وتمضي إلى حدود العسكرة والحروب.
في هذا الإطار يدفعنا الخوف إلى التفكير في إيجاد طرق لحماية الذات، إنها نظرية “المأذنة والمنارة” التي تحدث عنها الأمين العام للأمم المتحدة الأسبق الراحل الدكتور بطرس غالي، والذي أشار في أحد مؤلفاته إلى أن الخوف من الآخر الذي تقاطع مع طريقنا فجأة، من جراء السماوات التي انفطرت، وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت العالم قرية على أطراف الأصابع، هو الذي سيدفع إلى التقوقع والاحتماء بالرموز الدينية التي تمثل الثوابت في عالم سريع التغير.
من هنا يتحول الخوف إلى تعصب، يتستر بحجة حماية الذات والخشية عليها مما ينعت بالذوبان، أو التفكك، أو التلوث، أو الاحتواء، إنه الخوف المعرفي، الذي يولد الكراهية، وربما يولد منها بنفس القدر.
تبدو الإنسانية قلقة بالفعل جراء انتشار خطاب ضار يعيشه العالم، خطاب مليء بالتوترات القائمة على التعصب الديني والعقدي والمذهبي، والحساسيات الطائفية والاجتماعية، تلك التي تحمل نزعات نحو رفض الآخر، والحث على التخلص منه، واجتثاثه من جذوره. 
هل يمكن للقوانين والاستراتيجيات الدولية أن توقف خطاب الكراهية ومظاهر الخوف من الآخر، من دون أن تكون هناك إرادة إنسانية واعية لانتشال البشرية من وهدتها الآنية؟
الشاهد أنه خلال الـ 75 سنة الماضية، رأى العالم كيف كان خطاب الكراهية بمثابة نذير لجرائم الفظائع، بما في ذلك الإبادة الجماعية، من رواندا إلى البوسنة وكمبوديا، وفي الآونة الأخيرة، ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالعنف الذي أسفر عن عمليات قتل جماعية في العديد من أنحاء العالم، بما في ذلك جمهورية إفريقيا الوسطى، وسريلانكا ونيوزيلندا والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، وغزة آخر المطاف. 
أضحت إذا أصوات الكراهية أعلى من دعوات المحبة، وباتت عملة الكراهية هي الرائجة، إلا ما رحم ربك.
من – وكيف - يبني جسور المحبات ويهدم جدران الخوف والكراهية في عالمنا المعاصر؟ للحديث بقية. 

كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .