من الواضح أن الثورة المعرفية الحديثة حولت النظرة إلى متطلبات سوق العمل من البحث عن الوظيفة إلى ثقافة جديدة قوامها التوظيف الذاتي، وخلق الوظيفة، والعمل الحر غير المرتبط بعقود دائمة، أو وظائف مستمرة، بل عمل حر مؤقت، أو حتى الدائم، بعيداً عن متطلبات التوظيف التقليدي من ساعات دوام، ومكان عمل، وطقوس الزي، والتأمين الصحي، والتأمينات الإجتماعية، الإجازات المبرمجة، وغيرها. ثقافة العمل الحر بعقد وتعاقد مؤقت عن بعد، باتت تشغِّل نحو ربع القوى العاملة الحالية في العديد من دول العالم المتقدم، وبات ما يزد على 162 مليون شخص ينخرطون في أعمال لا تتطلب أكثر من مهارات محددة، من اللغة، والرقمنة، والاتصال والتواصل، في مجالات متنوعة. وقد قدَّرت بعض الدراسات العالمية أن متوسط نمو الوظائف عن بعد، المؤقت منها والدائم، سينمو بنحو 17 % سنويا حتى العام 2025، وأن ذلك النمو شهد، وسيشهد، معدلات نمو غير مسبوقة بالعقد الحالي في العديد من دول العالم المتقدم، إلى الدرجة الذي نمت به الوظائف عن بعد، أو ما يُسمى بالوظائف المؤقت عبر الإنترنت GIG، في اليابان بما يتجاوز 500 % منذ جائحة كوفيد 19 (كورونا) حتى الآن. أما على مستوى العالم العربي، فقد قدَّرت دراسة للبنك الدولي أن يصل نمو مجال العمل عن بعد، عبر الوظائف المؤقتة والدائمة، بنحو 20 % سنويا حتى العام 2025. كما أظهرت دراسة ميدانية، عبر الاستطلاع المباشر، أن نحو 52 % من المستجيبين في المنطقة العربية يفضلون الانخراط بوظائف عن بعد، مؤقتة أو دائمة، دون الانتظام بسوق الوظائف بمفهومه التقليدي. وقد ظهر في دراسة أخرى، أن حجم الدخل من الوظائف عن بعد، وصل إلى نحو 5 مليارات دولار في مصر، وملياري في الإمارات، ونحو مليار دولار في السعودية. الشاهد مما سبق، أن سوق العمل بمفهومها التقليدي، بنظمها الرسمية، وقواعدها الوظيفية، ومتطلباتها الإجرائية، بل وقواعد سلوكها الاجتماعية والأخلاقية، في تغيُّر شديد التوسع، والانفتاح، وباتت تحكمها قواعد غير تقليدية لا يحكمها مكان عمل، أو طقوس وظيفة، أو زمان أو مكان محدد.
المستقبل يتطلب من القائمين على تنظيم سوق العمل البدء بالتفكير جلياً في أليات تنظيم جديدة، بعيدة عن الفكر التقليدي، القائم على ربط التعليم بالعمل، وتنظيم النقابات والسيطرة عليها، وفكر تصاريح العمل والتفتيش عن المتجاوزين، أو حتى فكر الاعتماد على إيرادات رخص العمل، وحتى ضرائب الدخل من العمل.
سوق العمل ستنظمها متطلبات عقود ثنائية، خفية أحياناً، تحكمها المهارات الوظيفية. سوق موقعها الحقيقي فضاء المعلومات والإنترنت، خصوصا على منصات التواصل، المهنية والاجتماعية على حد سواء. العالم العربي، الذي تُشكل فيه الكتلة السكانية ممن هم بين التعليم الجامعي وسن الطفولة ما يزيد على 50 %، من أكثر بؤر العالم حاجة إلى تطوير سياسات سوق عمل تجعله الأكثر استفادة من استقطاب وظائف للشباب من فضاء سوق العمل العالمية، وليس المحلية أو الإقليمية فحسب. صنّاع القرار في مجال الموارد البشرية مطالبون في المنطقة العربية أن يحفزّوا الشباب نحو تطوير كفاءاتهم ومهاراتهم للدخول إلى المنافسة على المعروض عالميا، دون الحاجة إلى الهجرة، ودون الحاجة إلى صفوف الانتظار، ودون الحاجة إلى من يتوسط لهم بوظيفة دخلها لا يحقق أدنى متطلبات طموح الشباب وأمالهم. الفكر الجديد هو تأهيل الشباب لخلق الوظيفة، وليس التوظيف والبحث عنه.