الخطوة التي أقدم عليها البنك المركزي الأوروبي، وبنك كندا المركزي، حول البدء بتخفيض أسعار الفائدة هي خطوة استباقية، لا تتوافق مع توجُّهات وسياسات البنك الفيدرالي الأميركي. الخروج عن النص المكتوب اقتصاديًّا يعدُّ في مصلحة الدول أحيانًا، حتى وإن كان المكتوب نظرية اقتصادية رصينة؛ ذلك أنَّ الشروط المرجعية لتطبيق السياسات الاقتصادية تختلف بين اقتصاد وآخر. فاليوم، يسعى البنك المركزي الفيدرالي الأميركي إلى الوصول إلى التضخُّم المستهدف، وهو ما يدعوه إلى التشدُّد في السياسات النقدية عبر سلسلة رفع أسعار الفائدة بشكلٍ متتالٍ منذ مارس 2022، وحتى نهاية العام الماضي، ومن ثمَّ نحو تثبيت أسعار الفائدة سبع مرات على التوالي بعد ذلك وحتى اليوم، مع التوقُّع بأنَّ لا يبدأ التخفيض قبل بداية الربع الرابع من العام الحالي. ولعلَّ المعطيات التي يتعامل معها صانع السياسة النقدية في الولايات المتحدة تؤهِّل لما ينتهجه من سياسات أفضت إلى رفع أسعار الفائدة بنحو 550 نقطة أساس، بيد أنَّ التوجُّه منذ نهاية العام الماضي نحو تثبيت أسعار الفائدة أُعتُبِرَ توجُّهًا نحو التيسير والتقليل من حدة الآثار الانكماشية للسياسات السابقة في ظل تراجع معدلات التضخُّم التي تراجعت بشكل أكبر من المتوقع وهي تكاد تلامس 3 % حاليًّا، وفي ظل تحسُّن مستوى التوظيف أو الوظائف، والإنتاج الموجَّه نحو الاستجابة للطلب الاستهلاكي في الدولة.
وفي هذا السياق، فإنَّ ما توجَّه إليه البنك المركزي الأوروبي، والكندي، بالبدء، استباقيًّا، بتخفيض أسعار الفائدة إنما هو استجابة لمتطلبات السياسة لديهما، ذلك أنَّ المستهدف من معدلات التضخُّم، ومستويات النمو الاقتصادي، ومعدلات توليد الوظائف، يختلف عمّا شهده السوق الأميركي من انفراجات في معظم تلك الأرقام. وعليه كان لزامًا أن يبدأ بالتيسير التدريجي، وتخفيض أسعار الفائدة لتنشيط الاقتصاد وتحسين معدلات أدائه. الشاهد ممّا سبق، أنه على الرغم من أهمية سياسة ربط العملة بالدولار الأميركي، كسياسة ناجعة حقَّقت الكثير من النتائج الإيجابية، فإنَّ تلك السياسة لا تمنع الخروج عن النص الاقتصادي في محطات محدَّدة ووفق معطيات محلية تختلف قطعًا عن المعطيات أو المحدّدات التي يواجهها الدولار الأميركي في أرضه وبين جمهوره. إعادة النظر في سياسات أسعار الفائدة كأداة من أدوات السياسة النقدية الكمية غير المباشرة ضرورة للكثير من دول المنطقة العربية، وخاصة تلك التي لا تواجه ضغوطًا على عملتها وأسعار صرفها، والمحصلة أو البوصلة يجب أن تكون في تنشيط الاقتصاد، وتوليد الوظائف، وتنشيط الطلب، وهي الأسباب الثلاثة التي تحكم توجُّهات البنك الفيدرالي الأميركي، ويجب أن تحكم باقي دول العالم وهي تحدِّد السياسات النقدية، تشددية كانت أم تيسيرية.
* أستاذ السياسات العامة المشارك بكلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية