أحييك طه لا أطيل بك السجعا
كفى السجع فخراً محض اسمك إذ تُدعى
- محمد مهدي الجواهري -
مع أن طه حسين ظل يُعرف بلقب "عميد الأدب العربي" الذي أطلقه عليه الأخوة المصريون، واشتهر عربياً به أيضاً، وذلك تقديراً لدوره الكبير المتميز فيما قام به من دراسات للتراث الأدبي العربي بشكل معمق مستفيض وفق منهج علمي حديث سبق به زمانه بقفزات بعيدة، إلا أن العميد بدا منشغلاً بدراسات الشعر والنتاجات الأدبية لأُدباء بلاده أكثر من انشغاله بالأدب العربي الحديث في الأقطار العربية، هذا في الوقت الذي برز فيه واحد من أهم فحول الشعراء العرب في زمانه، ألا وهو الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري، والذي كان يقرض الشعر منذ يفاعة شبابه في العشرينيات، وكانت أول قصيدة له عام 1920 ضد الاحتلال الإنجليزي، وبالتالي فقد كان هذا الشاعر يستحق بأن يتناول شعره بالدراسة والنقد الموضوعي ناقد عربي كبير بقامة طه حسين، سيما وأن العراقيين وكثرة من الأدباء والمثقفين العرب خلعوا عليه أيضاً لقب "شاعر العرب الأكبر".
أكثر من ذلك فقد شاءت المصادفات الجميلة أن يلتقي الرجلان في واحدة من المناسبات الأدبية بسوريا عندما دُعي لحضور مهرجان أدبي بدمشق عام 1944 نظّمه المجمع العلمي في سوريا تحت عنوان " في ذكرى أبي العلاء المعرى" وألقى الجواهري في هذا المهرجان قصيدة طويلة مطلعها " قف بالمعرة وأمسح خدها الربا / واستوح من طوق الدُنيا بما وهبا.
وقد هام العميد إعجاباً وطرباً ببيتها الأخير: لثورة الفكر تاريخ يحدثنا / بأن ألف مسيح دونها صلبا. فما كان من طه حسين إلا أن طلب من الجواهري إضافة ألف أُخرى ليصبح البيت على هذه الشاكلة: لثورة الفكر تاريخ يُحدثنا/ بأن ألف ألف مسيح دونها صلبا.
وقد استجاب الجواهري وأعاده البيت بالشكل الذي أراده. وبعد انتهى من الإعادة نهض طه حسين وقال: هذا بقية شعر وديمومة الشعر العباسي ثم التفت إليه قائلاً: أنت أشعر العرب، وفي أحد اللقاءات التلفزيونية التي أُجريت معه عبّر الجواهري عن أحاسيسه في تلك اللحظات بأن توسم في طه حسين الذي يجلس بجانبه بأنه أبو علاء عصرنا لنبوغه الأدبي وعبقريته الفكرية الفذة.
ولم يلبث الجواهري أن مدح عميد الأدب العربي طه حسين بقصيدة لا تقلّ شأناً عن قصيدة أبي العلاء المعري، إذ جاء في صدر بيتها الأول : أحييك طه لا أطيل بك السجعا.
ولكن بعد هذا اللقاء الفريد عاد العميد إلى وطنه لينهمك في أجندته المعتادة التي درج عليها. ولا يبدو -إن صح تقديرنا- قد تطرق إلى ذلك اللقاء أو قصيدة الجواهري تحديداً، سواء في كتاباته أو في أحاديثه، اللهم إلا بشكل عابر.
والحال أن الشاعر نفسه شاء حظه العاثر أو سوء طالعه ألا يحظى بالشهرة الإعلامية العربية التي يستحقها إبان أوج تألقه وصعوده، كما غُيّب عن التكريم على الساحة الثقافية العربية لعقود طويلة، رغم أنه حظي بشهرة كبيرة داخل وطنه، حتى رغم كل ما واجهه من تضييق وتهميش لأسباب سياسية تتعلق بهجائه اللاذع في قصائده لسياسات الأنظمة الشمولية المتعاقبة التي عاصرها، ولعل الملابسات الفئوية التي اقترنت باسمه وهي ملابسات لا ذنب له فيها، باعتباره أديباً ومثقفاً عراقيا علمانيا ذا ميول يسارية، كانت لها هي الأخرى دور في تغييبه من المشهد الثقافي العربي، وإن بدا هذا التغييب يتبدد إلى حدما خلال العقدين الأخيرين من حياته المديدة (نحو ٩٨ عاما).