العدد 5631
الجمعة 15 مارس 2024
banner
الاعتمادات المستندية وعمليات الاحتيال
الجمعة 15 مارس 2024

تقوم البنوك التجارية بإصدار خطابات الاعتماد المستندية تلبية لرغبات الزبائن وهذه الخدمة المصرفية تلعب دورا كبيرا في دعم التجارة الدولية وتعظيم الثقة بين زبائن البنوك ونظرائهم في الدول الأخرى، إذ تكتمل العملية التجارية وفقا لما في خطابات الاعتماد المستندية.

وكانت هذه الاعتمادات تتم وفق مرئيات كل بنك على حدة أو وفق الشروط المتفق عليها، وفي حالات عديدة تحدث الخلافات فيما بين البنوك أو فيما بين التجار والبنوك من الجهة الأخرى، وكان لهذه الخلافات أثر في تعطيل التجارة والمعاملات المصرفية المرتبطة بها.

وتنبهت غرفة التجارة الدولية لجسامة هذه الخلافات وانعكاساتها السلبية، ورأت ضرورة البحث عن مخارج لتجاوزها وفي الوقت نفسه، العمل على تمكين البنوك من القيام بدورها في تلبية رغبات الزبائن في مجال التصدير والاستيراد.

ومن هنا طرأت الفكرة “الجهنمية” بإصدار القواعد “الموحدة“ لتنظيم عمليات الاعتمادات المستندية التي أصدرتها واعتمدتها غرفة التجارة الدولية، وحرصت على تنقيحها وتطويرها لمسايرة المستجدات التجارية والمصرفية، وآخر هذه القواعد الموحدة لتنظيم الاعتمادات المستندية تحمل رقم 600 (يو سي بي 600) وهي المطبقة الآن. مما تتميز به هذه القواعد “الموحدة - يونيفايد” أنها وفرت أسس لقيام نظام مصرفي موحد تسير عليه البنوك في كل العالم. وهذا بدوره وفر لغة واحدة متعارف عليها بين جميع البنوك يتم تطبيقها وفق وتيرة مصرفية قانونية واحدة. وهذا أدى بدوره إلى انحسار الكثير من الخلافات التي كانت تطرأ قبل انتهاج نظام القواعد “الموحدة”، ما قاد إلى الانتشار والتوسيع الواضح لخدمة الاعتمادات المستندية في البنوك.

وأهم ما يميز القواعد الموحدة لتنظيم خدمة الاعتمادات المستندية أن البنوك تقوم بتنفيذ واجباتها والسداد بعد الاطلاع على المستندات فقط. والقاعدة الجوهرية هنا أن يتم التعامل “بالمستندات فقط”، وهذا يعني أنه عندما يقدم الزبون المستندات الخاصة بشحن البضاعة وما يرتبط بها من مستندات أخرى يجب على البنك السداد الفوري؛ لأن التزامه متعلق فقط بالمستندات المذكورة في خطاب الاعتماد المستندي، ولا علاقة إطلاقا للبنك بالعقد التجاري بين المستورد والمصدر؛ لأن عقد الاعتمادات المستندية مستقل تماما عن العقد التجاري وذلك تطبيقا الى “مبدأ الأوتنومي” أي الاستقلال بين العقدين.

هنا يتضح لنا حصر مسؤولية البنك فقط فيما يتعلق بالمستندات الواردة في خطاب الاعتماد المستندي إذ عليه الوفاء بالسداد عند تقديم المستندات له واطلاعه عليها. وقد تكون البضاعة المعنية غير سليمة أو غير مطابقة لمواصفات العقد أو منتهية الصلاحية أو غيره وهناك حالات عديدة بعد وصول البضاعة يكتشف العميل أنها حديد خردة وليست ملابس حسب العقد مع الطرف اللآخر “المصدر للبضاعة”… ولكن في جميع الأحوال، ومن الناحية القانونية، ليس للبنك أي علاقة بهذا الشأن ولا يسأل عنه قانونا، وليس مطلوبا منه التحري بشأنه أو بشأن أي تفاصيل متعلقة بالعقد المبرم فيما بين أطراف العملية التجارية من مستورد ومصدر. وذلك لأن البنك ليس جزءا من هذا العقد، بل ولا يسأل عنه وفق القواعد الموحدة لتنظيم الاعتمادات المستندية.

بالرغم مما ذكرناه من أن انتهاج غرفة التجارة الدولية لهذه القواعد الموحدة أدى لتطوير التجارة وساعد البنوك كثيرا، إلا أن قاعدة “الأوتنومي” الجوهرية التي تخول البنوك التعامل بالمستندات فقط لتنفيذ التزاماتها في الاعتمادات المستندية قد تفتح الباب واسعا للمحتالين وللعمليات الاحتيالية التي يلجأ لها ضعاف النفوس، مستغلين قاعدة الدفع مقابل “التعامل بالمستندات فقط”. ولقد اتضح في حالات عديدة عدم صلاحية البضاعة أو عدم تطابقها في المقاس أو الشكل وربما شحن أغراض تختلف عن البضاعة المطلوبة مثل شحن ملابس قديمة بدلا عن معدات طبية أو شحن حجارة بدلا عن حديد… وهذا في الحقيقة أمر مؤلم لكنه حدث ويحدث في كل يوم ومن كل الاتجاهات.

هذا هو الوضع وفق قواعد (يو سي بي 600) ولابد من معالجة هذه الثغرة لقفل باب الاحتيال والمحتالين، وفي هذا المجال نلاحظ أن المحاكم لعبت دورا كبيرا عبر تدخلها بإصدار قرارات قضائية مهمة أصبحت “سوابق قضائية”، مضمونها عدم التقيد التام بقاعدة “التعامل بالمستندات فقط”، إذا علم البنك بأمر وواقعة الاحتيال، بحيث يمكنه عدم السداد بالرغم من تقديم المستندات له نظرا للاحتيال. نعتبر هذا تطورا قانونيا كبيرا لمعالجة الاحتيال عبر الاعتمادات المستندية، ولكنه أيضا لا يخلو من الصعوبات لأن تدخل المحاكم وإصدار السوابق معمول به في بلدان “القانون العام - القانون الإنجليزي” ولا تطبقه دول القانون المدني “القانون الفرنسي” التي تسير وفق الأحكام المنصوص عليها في القانون. إضافة لهذا، هناك مواقف متباينة لمحاكم “القانون العام” التي أجازت عدم السداد في حالات الاحتيال؛ لأن بعضها يفسر الاحتيال على أنه ذلك الاحتيال المتعلق بالاعتمادات المستندية نفسها، بينما ترى محاكم أخرى أنه ذلك الاحتيال المتعلق بتنفيذ العقد المبرم بين الأطراف كعدم ملاءمة البضاعة للمواصفات مثلا.. إضافة إلى اللغط الدائر بشأن عبء إثبات الاحتيال وما هو الاحتيال المقصود؟ وهذه المواقف كما يتضح لنا جليا موافق متباينة، فعلى أيهما نسير وأين نتجه ؟ وقطعا هذا التمايز سيستمر لبعض الوقت حتى يستقر رأي المحاكم تماما بأحكام قضائية نهائية وثابتة…

من دون شك للمحاكم دور كبير في هذا، ولقد صدرت أحكام جميلة من المحاكم الإنجليزية والأميركية، ولكن الحل الأمثل في نظرنا هو قيام “اللجنة المصرفية” بغرفة التجارة الدولية بدراسة أمر الاحتيال وتضمين القواعد الموحدة (يو سي بي 600) أحكاما جديدة خاصة بعمليات الاحتيال وكيفية تعامل البنوك معها. ومن الناحية القانونية، نرى أن موضوع الاحتيال في الاعتمادات المستندية يحتاج لتوجيهات واضحة من غرفة التجارة الدولية انطلاقا من مبادئ توفير الحماية الضرورية للتجارة الدولية والصناعة المصرفية؛ حتى لا تنجرف في هذا المستنقع السام من مرتادي الاحتيال وهم كثر، وتزداد أعدادهم مع كل صباح.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية