العدد 5554
الجمعة 29 ديسمبر 2023
banner
آفاق الاقتصاد في العام 2024
الجمعة 29 ديسمبر 2023

يقف الاقتصاد العالمي اليوم على مفترق طرق مهم بين الدورات الاقتصادية، فهو بين الخروج من مطرقة تبعات الهزات الارتدادية لجائحة كورونا (كوفيد 19)، وسندان تبعات التأثر بمجريات الحرب المستمرة منذ نحو عامين بين روسيا وأوكرانيا، بيد أن الواضح من خلال تقرير “آفاق الاقتصاد العالمي” الصادر في أكتوبر الماضي عن صندوق النقد الدولي، أن العام 2024 قد يكون عام الاتزان وتحقيق نوع من التوازن العام، قبل الانطلاق نحو إقلاع ناعم سلس، وقد يكون بطيئًا، في دورة اقتصادية جديدة من التعافي تبدأ خلال العام 2025، بحيث تكون الأعوام الخمسة الأخيرة من العقد الحالي أكثر إيجابية مما شهده العالم طوال عقد ونصف تقريبًا عقب الأزمة المالية العالمية الأخيرة. ومع ذلك فإن التوقعات على المستوى العالمي، في المدى القريب أو المتوسط، مازالت تشير إلى صعوبات كبيرة في تحقيق نمو اقتصادي حقيقي بمستويات ما قبل الجائحة، بل إن المستوى المتوقع للنمو الحقيقي في العام 2024 هو أقل مما تم تحقيقه في العام الحالي. 
كما تشير التوقعات بوجود تحديات حقيقية في ضبط معدلات التضخم، وإن كانت التنبؤات الأولية تشير إلى تراجع معدلات التضخم في أوروبا وأميركا، ولكن بنسب أقل مما هو مستهدف. وترى التوقعات العالمية أن ضبط إيقاع التضخم، وإعادة توجيهه نحو النسب المستهدفة، لن يكون قبل العام 2025.
إلا أن الاتجاهات العالمية، بافتراض غياب أحداث عالمية غير متوقعة، أو كما يقال في علم الاقتصاد “مع بقاء العوامل الأخرى ثابتة”، تؤكد توقف البنوك المركزية عن أي زيادات إضافية في أسعار الفائدة خلال العام 2024، بعد استنزاف زيادات وصلت إلى 13 مرة، ما يعطي بريق أمل نحو تحريك عجلة الاستثمار من جهة، وتخفيف عبء خدمة الدين عالميًا من جهة ثانية. 
ولعل السياسة النقدية تستطيع أن تبدأ بالعودة إلى التوازن والاستقرار خلال العام 2024، ما يسمح لها بتخفيف حدة السياسات الانكماشية التي تم اللجوء إليها لمواجهة الضغوط التضخمية العنيفة التي شهدها العالم عقب الجائحة، وشكلت ضغوطًا كبيرة على أسعار صرف العملات الأجنبية وخاصة الدولار واليورو. 
وقد انخفض متوسط معدلات التضخم خلال العام 2023 إلى نحو 8.7 %، ويتوقع له أن ينخفض إلى ما دون 6 % خلال العام المقبل، كما أن التحديات التي واجهتها بعض البنوك الأميركية، والسويسرية، والألمانية، باتت وراء ظهر الجهات الرقابية النقدية في تلك الدول، وحول العالم. 

ومن الواضح أن أكبر التحديات التي سيواجهها العالم بشكل عام، والدول النامية ومنخفضة الدخل، بشكل خاص، هي عبء المديونية العامة وخدمة الدين، ما يتطلب من الدائنين اتخاذ إجراءات نوعية نحو تخفيض عبء تكلفة القروض من جهة، والبحث عن سبل غير تقليدية؛ لسداد بعض المديونيات، من جهة أخرى. وقد يكون بعض هذه السبل عبر مبادلة الديون بالاستثمارات، أو عبر جدولة طويلة الأمد، يتخللها بيع بعض المديونيات بخصومات جوهرية، خاصة في الدول التي يتوقع لها أن تحقق معدلات نمو ونتائج إيجابية مع نهاية العقد الحالي. 
توقعات صندوق النقد الدولي تشير إلى أن العام 2024 سيشهد انخفاضًا طفيفًا في النمو الحقيقي على المستوى العالمي، ليصل إلى نحو 2.9 %، مقابل 3 % للعام الحالي. وقد تأثرت تلك التقديرات باستمرار تواضع ما تحققه الاقتصادات المتقدمة من معدلات نمو منذ العام الحالي، والتي انخفضت فيه تلك المعدلات إلى نحو 1.5 %، مقابل 2.6 خلال العام 2022، ويتوقع ألا يتجاوز النمو في الدول المتقدمة في العام 2024 عن 1.4 %، في حين تشهد الاقتصاد الناشئة والنامية معدلات نمو ثابتة بين العام الحالي والمقبل وبمعدل 4 %، وهو أقل بشكل طفيف عن 2022، بيد أنه يقل بنسبة 50 % عما كان يتم تحقيقه في تلك الاقتصادات ما قبل الجائحة. ولعل تأثر الصين بأزمة قطاع العقارات، هو أحد أهم أسباب عدم تحقيق نتائج ملموسة في النمو الحقيقي لدى هذه الاقتصادات، حيث يتوقع أن ينخفض النمو في الصين من 5 % العام الحالي إلى 4.2 % في العام المقبل، ما يترك أثرًا كبيرًا في العديد من الاقتصادات الناشئة. 
يذكر أن الاقتصاد الهندي، الذي يتوقع له أن يقفز إلى المرتبة العالمية الثالثة قبل نهاية العقد الحالي، سيحقق أكبر معدلات النمو العالمية في العام 2024، بنسبة تصل إلى 6.3 %، وهي نسبة مستقرة مقارنة بالعام 2023. ومن المتوقع أن تسجل كل من اليابان وروسيا أقل معدلات نمو اقتصادي للعام 2024، بنسبة تتراوح حول 1 % فقط، مقارنة بنحو 2 % في العام 2023. أما على مستوى منطقة الشرق الأوسط ووسط آسيا، فإن التوقعات للعام 2024 تشير إلى تحقيق معدلات نمو تصل إلى نحو 3.4 %، وهو تقدم ملحوظ مقارنة بنحو 2 % فقط للعام 2023، وإن كان يقل عن المعدلات السابقة لما قبل الجائحة، بل ولما تم تحقيقه عام 2022. وتبقى القارة الأوروبية الأقل حظًا في تحقيق معدلات نمو حقيقية، حيث لن تتجاوز معدلات النمو فيها 1.2 %. أما على مستوى المديونية العامة العالمية، فقد أشارت التقارير إلى استمرار تفاقم أوضاع تلك المديونية العامة، والتي وصلت إلى نحو 93 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، متجاوزة مبلغ 97 تريليون دولار في العام 2023، وقد شكلت دول شمال أمريكا النسبة الأكبر من تلك المديونية، تليها مجموعة دول آسيا باسيفك، ثم الدول الأوروبية، ومجموعة دول أميركا الجنوبية، والمجموعة الإفريقية. وتشير الإحصاءات العالمية إلى أن أكثر الحكومات العالمية مديونية هي اليابان بنسبة 255 % من الناتج المحلي الإجمالي، تليها الولايات المتحدة الأميركية بنسبة 123 %، بيد أن الأخيرة هي أكثر دول العالم استحواذًا على الديون، حيث تصل نسبة ما اقترضته من الرصيد العالمي للديون العامة إلى 34 %، بحجم مديونية حكومية يتجاوز 33 تريليون دولار. وبالتأكيد، فإن مديونية الأفراد والمؤسسات الخاصة والمستقلة حول العالم تتجاوز رقم المديونية الحكومية بنحو الضعف.     
ختامًا، يعد العام 2024 عامًا شبه مكرر عن العام 2023، ما لم يواجه العالم أي أحداث عالمية غير متوقعة، بيد أنه عام يمكن تسميته (عام إعادة التوازن النسبي). والأمل أن تبدأ دورة اقتصادية جديدة، وإن كان بشكل متباطئ، مع بداية العام 2025. المنطقة العربية ليست استثناءً من ذلك، إلا أن الحروب التي تشهدها، وحالات عدم الاستقرار الداخلي في العديد من دولها يجعلها أكثر هشاشة لمواجهة التحديات، وعليه فمن غير المتوقع أن تحقق المنطقة اختراقات حقيقية، بالرغم من أنها ضمن تصنيف الاقتصادات الناشئة والنامية. وبالرغم من أن مجموعة دول مجلس التعاون الخليجي هي الأكثر حظًا في تحقيق معدلات نمو حقيقي، قد يتجاوز المتوسط المرسوم للمنطقة 3.4 % بكثير، فإن حالات عدم الاستقرار وعدم اليقين والتقلب تجعل من الصعوبة تحقيق معدلات النمو اللازمة؛ لتخفيف عبء البطالة والفقر المنتشرين في العديد من دول المنطقة. ذلك أن متطلبات التعامل مع نسب البطالة المرتفعة، ومعدلات الفقر المتزايدة، تتطلب معدلات نمو تفوق ضعف النمو السكاني في المنطقة، أي بين 6 % إلى 7 % على أقل تقدير، وهو ما يصعب الوصول إليه في ظل معطيات التطورات الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية التي تشهدها هذه المنطقة الملتهبة بشكل مطرد منذ بداية العقد الثاني من هذا القرن.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية