كان الحوار مع أديب نوبل نجيب محفوظ حلما لا يروح عن بالي، وكنت أتحين الفرصة المناسبة، حتى أثارت مذكراته التي كتبها رجاء النقاش جدلا كبيرا، ذهبت إليه في منزله بالعجوزة لأحاوره عن هذه المذكرات وأشياء أخرى كانت تدور في ذهن من يضع أولى خطواته على سلم الكتابة الطويل الشاق. استمر الحوار ما يقرب من ثلاث ساعات، كان الأستاذ نجيب خلالها يقترب بأذنه من فمي ليسمعني وأنا أدنو منه مشفقا من علو صوتي.. أظن أنه كان يسمع بضع كلمات فقط من السؤال.. لكن إجاباته دائما كانت شيئا مذهلا، ذاكرة حديدية، تحليلات وعمقا مع وضوح رؤية لا تخلو من خفة الدم التي اشتهر بها أديبنا الكبير.
كان أكثر ما يشغلني: مواقف محفوظ السياسية، خصوصا من الرئيسين عبدالناصر والسادات بعد أن أثارت عليه المذكرات هجوما قاسيا. كنت أريد أن أسمع منه مباشرةً لأعرف لماذا يقول أديب كبير مشهور بأخلاقه وأدبه الجم رأيا فيثير كل هذا الجدل! سألته لماذا كان هجومك خلال مذكراتك شديدا على جمال عبدالناصر وثورة يوليو؟ أجاب: لم أهاجم الثورة فأنا مؤمن بمبادئها إذا استثنينا منها مسألة تأجيل الديمقراطية التي لم أكن أؤيدها، أما ما عدا ذلك كالمبادئ الخارجية مثل الوحدة العربية أو تحرير الدول الواقعة تحت سيطرة الاستعمار أو التنمية الزراعية والصناعية أو إعلان الجمهورية والعدالة الاجتماعية، فهذه المبادئ كلها أنا مؤمن بها إيمانا كليا قبل مجيء الثورة، والحكاية كلها أنني لم أوافق على طريقة تنفيذ هذه المبادئ، وكنت أتمنى من الرئيس جمال عبدالناصر أن يكون همه الأول ترتيب البيت من الداخل، فقد تسلم قيادة شعب أعداؤه الجهل والفقر والمرض بالإضافة إلى الديكتاتورية، وكنت أتمنى أن تكون سياسته الخارجية تابعة لسياسته الداخلية، فإذا كان هناك عمل خارجي سينتج عنه تعطيل التنمية، كان يجب عليه أن يحذر، وأن تكون علاقته جيدة مع الجميع، بل وأن يطلب مساعدتهم في كل شيء، ولو كان قد فعل ذلك لتركنا ونحن في مستوى اليابان، وليس معنى ذلك أن أستهين بمبادئ عبدالناصر الخارجية، فأنا مثله أتمنى تحرير الأمم المستعبدة، وكنا نردد طوال عمرنا: الاستقلال التام أو الموت الزؤام، لكن السؤال هو كيف أحرر هذه الأمم؟ وعلي أن أسأل نفسي ماذا أملك من قوة حتى أحررها أو أساعدها على التحرير بتأييد مواقفها في الأمم المتحدة مثلا، أو بأن أقدم لها مساعدات عينية إذا استطعت ذلك، أما أن أتحدى قوى الاستعمار وأساعد الدول بالسلاح وأواجه أقوى الدول الاستعمارية بدلاً من أن أتجه إلى التنمية، فهذا ما لم يكن مقبولاً، وأيضا أنا أؤيد الوحدة العربية وأرى أن علينا أن نبدأ بالوحدة الثقافية أو الاقتصادية ونؤجل الوحدة السياسية إلى ما بعد ذلك، إذا أنا متفق مع معظم مبادئ عبدالناصر لكنني مختلف مع أساليب تنفيذها. كما أنني لست ضد الثورة، لكنني أنتقد طريقة تنفيذ المبادئ التي قامت عليها.
السؤال الآن: كيف لمثل هذه الإجابة أن تثير هجوما كبيرا على أديب نوبل؟.
كاتب مصري