في المقال الذي نشرته الأسبوع الماضي، وفي معرض التطرق إلى ما حققته مملكة البحرين من إنجازات في إطار الصراع والتصدي لجائحة كورونا المرعبة، ذكرت أن الكفاءات الطبية البشرية والخدمات والمرافق والتجهيزات الصحية كانت على درجة عالية جدًا من الجودة، وكانت كافية وظلت صامدة، فلم يُحرم أي مواطن أو مقيم من الرعاية الصحية والعناية والفحوصات المطلوبة والعلاج، وكل من احتاج وجد مكانا له في مرافق الحجر الصحي أو سرير في المستشفيات، ولم نسمع عن قصور في الاهتمام، أو نقص في الأدوية أو أجهزة التنفس الضرورية، بينما رأينا كيف انهارت الأنظمة الصحية والمرافق والخدمات الطبية في أكثر الدول تطورا ونموًا وثراءً أمام زحف ووطأة الجائحة الشرسة.
هذه الحقيقة جعلتني أعود بذاكرتي إلى العام 1995 عندما تم تشكيل مجلس وزراء جديد، ضم عددا من الوزراء الجدد، وأسندت فيه إليّ حقيبة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية. وبعد أول اجتماع للمجلس، وفي جلسة جانبية حميمة لطيفة ضمت عددا من الوزراء الجدد دار حديث أو دردشة بشأن أهم وأصعب الوزارات الخدمية وأكثرها اتصالًا وتواصلًا والتصاقًا بالمواطن والمقيم، وتوصلنا في نهاية الدردشة إلى أن أكثر وزارة خدمية اتصالا والتصاقًا بالمواطن وهمومه واحتياجاته هي وزارة الصحة، فهي معنية بصحة الأجنبي المقيم والزائر أيضًا منذ اللحظة التي تطأ فيها قدماه بلادنا إلى اللحظة التي يغادر فيها، وبالنسبة للمواطن، فإن التفاعل والتواصل المباشر يبدأ معه وهو جنين في رحم أمه، ومن لحظة الحمل ثم الولادة (وأحيانًا قبل الحمل في حالة العقم) إلى آخر ساعة من حياته (وربما بعدها في حالات الحاجة إلى تشريح الجثث أو دفنها على سبيل المثال).
وللتاريخ والحقيقة، فإن هذه الوزارة، وفي مختلف الحقب والظروف والأوضاع، اضطلعت بمسؤولياتها ومهامها على أحسن وجه، وأدت رسالتها بكل أمانة واقتدار منذ نشأتها، وحتى اليوم ونحن نراها تقف صامدة لتثبت قدرتها وكفاءتها وهي تخوض صراعًا صعبًا وتقف في قلب المعركة في مواجهة جائحة كورونا الشرسة.
إن النجاح الذي حققته وتحققه وزارة الصحة، والذي يشيد به ويشهد له الجميع في هذا الظرف بالذات، والذي أشرنا إلى بعض جوانبه في مقالنا السابق، لم يأت من فراغ، لكنه جاء نتيجة لالتزام واهتمام ومتابعة قيادتنا الحكيمة من أعلى قمة فيها متمثلة اليوم في حضرة صاحب الجلالة الملك المفدى، وصاحب السمو الملكي ولي العهد رئيس الوزراء الموقر، حفظهما الله ورعاهما.
إن تمكن خدمات ومرافق الرعاية الصحية والعناية الطبية والعلاجية في البلاد من الصمود في وجه جائحة كورونا العاتية راجع إلى صلابة ومتانة القواعد التي بنيت عليها منظومتنا الصحية التي وُضعت لبناتها الأولى قبل 129 عامًا، وبالتحديد في العام 1892 عندما فتح سمويل زويمر عيادة صغيرة قرب سوق المنامة في ذلك العام، وزويمر هذا لم يكن طبيبًا، بل كان مبشرا وباحثا ورحالة أميركيا قضى ربع قرن تقريبًا يتنقل بين الدول العربية في الخليج ساعيًا إلى تنصير سكانها المسلمين، وفي حين أنه فشل فشلًا ذريعًا في تحقيق أهدافه التبشيرية، فإنه نجح في بذر البذور وإرساء أساسات منظومتنا الصحية التي نتباهى ونفاخر بها اليوم.
وفي العام 1900 افتتح مستشفى فيكتوريا التذكاري ليكون أول مستشفى يُقام في البحرين ومنطقة الخليج العربي، وتلاه في العام 1903 بناء مستشفى الإرسالية الأميركية الذي ما يزال قائمًا حتى الآن وآخذ في التوسع.
وفي عهد رائد التحديث المغفور له الشيخ حمد بن عيسى بن علي آل خليفة حاكم البحرين، افتتح في العام 1942 أول مستشفى حكومي، وهو مستشفى النعيم للرجال والنساء، وقد سكن في الطابق الثاني من هذا المستشفى الدكتور ريتشارد سنو رئيس الدائرة الطبية لحكومة البحرين وزوجته، حتى تقاعده في العام 1970، وكان الدكتور سنو إنسانًا مخلصًا متفانيا في خدمته، يعمل بجد واجتهاد ليلًا نهارًا، ولم يتردد عن معالجة كل الأمراض وإجراء كل أنواع العمليات الجراحية، مع قلة الأجهزة وعدم توافر الإمكانات المطلوبة في كثير من الأحيان في ذلك الوقت.
وفي أول حكومة شكلت في البحرين بعد الاستقلال، عُين في العام 1971 أول طبيب بحريني اختصاصي وجراح القلب الدكتور علي محمد فخرو وزيرًا للصحة، الذي ظل في هذا المنصب حتى 1982، وإليه يعود الفضل في إحداث قفزة نوعية واسعة للخدمات الصحية والطبية وتنمية الكفاءات والطاقات البشرية البحرينية المتخصصة، كما أنه أرسى خططا وبرامج لتطوير وتوسيع مجمع السلمانية الطبي الذي افتتح المرحلة الأولى منه المغفور له الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة في 1959، وتم افتتاحه رسميا في عهد المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة في 1978، بحيث أصبح الآن أكبر مجمع لتوفير الرعاية الصحية والطبية للمواطنين والمقيمين، كما أصبح يشكل مركزا تعليميا وبحثيا للمختصين في مجال الصحة.
وفي العام 1982 تسلم وزارة الصحة خريج القانون والأدب الإنجليزي المشهود له بالكفاءة الإدارية المتميزة الأستاذ جواد سالم العريض الذي أكمل وأضاف وأسرع في دفع عجلة التطوير والتحديث للخدمات والمرافق الصحية في البلاد حتى العام 1995. في ذلك العام وحتى 2002 تسلم حقيبة وزارة الصحة اختصاصي جراحة العظام الدكتور فيصل رضي الموسوي جالبًا معه إلى كرسي قيادة الوزارة حوالي 30 عامًا من الخبرة التخصصية والإدارية في المجال الصحي.
ثلاثة وزراء فقط تسنموا حقيبة وزارة الصحة خلال 31 سنة؛ أي بمعدل أكثر من 10 سنوات لكل وزير، إلا أنه ومن العام 2002 وخلال الـ 13 عامًا اللاحقة شهدت الوزارة حالة من التجديد وتسارع وتيرة تغير وتبدل الوزراء، وبمعدل وزير لكل سنتين فقط؛ إذ تعاقب على حمل هذه الحقيبة المهمة في الفترة المذكورة 6 وزراء من خيرة الكفاءات الوطنية التي حظيت الوزارة بخبراتهم وتخصصاتهم وجهودهم وعطائهم، وهم الجراح وطبيب الأطفال البارع عضو الجمعية البريطانية لجراحة الأطفال الدكتور خليل إبراهيم حسن، والدكتورة ندى حفاظ، وهي أول امرأة تتقلد حقيبة وزارية في مملكة البحرين وأول سيدة تشغل منصب وزيرة للصحة في الوطن العربي، والدكتور فيصل الحمر الحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة ليد البريطانية في مجال التخطيط الصحي، والدكتور نزار البحارنة الحاصل على درجة الدكتوراه في الهندسة الميكانيكية من جامعة ويلز البريطانية، الذي استقال بعد أقل من شهر من تسلمه الحقيبة نتيجة لإرهاصات الأحداث المؤسفة التي مرت بها البلاد في العام 2011، والدكتورة فاطمة البلوشي وزيرة التنمية الاجتماعية التي كلفت بأعمال وزارة الصحة بالإضافة إلى عملها، والمرحوم صادق الشهابي الحائز على ماجستير في إدارة المستشفيات والعلوم الصحية من الولايات المتحدة الأميركية.
واليوم، ومنذ العام 2015، فإن السيدة فائقة الصالح الحاصلة على درجة الماجستير من جامعة لندن، والأمين العام المساعد الأسبق لجامعة الدول العربية تحمل على عاتقها مسؤولية قيادة هذه الوزارة، ومثل من سبقوها، فإنها تقوم بأداء مهامها والتزاماتها بكل إخلاص وتفانٍ واقتدار، وعلينا جميعًا أن ندعو لها بمزيد من التوفيق والنجاح.