+A
A-

نبيلة زباري...تحرير النَص من قيوده 1-2

زمنيا تنتمي الشاعرة البحرينية نبيلة زباري إلى ما بات يسمي (مجازا) بموجة التسعينيات. فمنذ دشن إصدارها الشعري الأول (حواجز رمادية) الصادر في العام 1994م دخولها رسميا مدونة الشعر البحريني المعاصر، وصولا إلى هذه المجموعة الجديدة (أطـلّ على هـذا القلب) 2020م، كرست هذه الشاعرة كأحد الأصوات النسائية المهمة في سياق موجة شعراء التسعينات في مملكة البحرين وفي الخليج العربي. وإذا كانت التجارب الشعرية الأولى في سبعينات القرن الماضي، قد اتسمت بنوع من النمطية المُؤَسَسة على أيديولوجيا مُؤطِرة للفكرة والبنية واللغة، وبدأت بمخاض صعب وكانت معجونة بالهم السياسي والاجتماعي، فإن التجربة الشعرية التسعينية الجديدة (والتي تنتمي إليها زباري) قد حاولت تجاوز هذه النمطية المسكونة بالفكرة الأيديولوجية، فانتقلت القصيدة معها منذ بداية التسعينيات من تمجيد الأيديولوجيا، إلى التحرر من تلك الأطر المقيدة نحو أفق حرية النص الشعري غنائيته.

وهنا تحديدا بالإمكان تنزيل تجربة نبيلة زباري. فهي فنيا، تنتمي إلى مرحلة القصيدة النثرية الجديدة (مع أن تجربتها الشعرية الممتدة على مدار 25 سنة تمتاز بقدر كبير من التنوع في الشكل والمضمون)، إلا أنها بقيت – مع ذلك-جزءاً من هذه الموجة التي تكرست مع الزمن، وتمكنت من فرض نفسها كعنوان في الكتابة الشعرية الرومانسية، مواكب ومحاك في بعض جوانبه للموجة السابقة. إذ ظلت مفردة الإنسان هي العنوان المركزي للنص الشعري. فالشاعرة تبدأ بالطبيعة وبالمكان والزمان البحرينيين، ثم يأتي الوطن متوجا للعلاقة بين الطبيعة والإنسان، ويأتي الحب من رحم هذه العلاقة، ثم يأتي البُعد الإنساني بعد ذلك ليكمل الصورة
إن موضوع الإنسان في هذه التجربة، لم يكن مقتصرا على الإنسان ابن بيئته فقط، وإنما انفتح هذا المفهوم على الإنسانية ككل، فحينما نقرأ بعض نصوص هذه المجموعة الجديدة على سبيل المثال، نجد الإنسان الحاضر في كل مكان، وبذلك صار تتويجا لجميع الموضوعات. وقد نضج نتاجها الشعري تباعا، من سنة إلى أخرى. فالمتابع لهذه التجربة لا يُخطئ تلك الغنائية الرومانسية المغموسة في عشق الوطن في قصائدها، فيكتشف أنها وفيةٌ لذات الرؤية التي أسَّست لها منذ بدايات تسعينيات القرن الماضي، إلا أنها انتقلت داخلها، ومن دون قفز أو عناء إلى تجربة شعرية أكثر نضجا واكتمالا من الناحية الفنية في ديوانها الجديد (أطل على هذا القلب)، والذي يكمل دائرة التجربة الشعرية
لقد اختارت زباري هذا العنوان مفتاحاً للمتن الشعري، وخارطة للمتلقي، من موقع، تطل منه على (هذا القلب) وكأنه ليس منها، وإلا كانت قالت (على قلبي).!! ولذلك على المتلقي أن يرافق الشاعرة في رحلة البوح والكشف عمّا في هذا القلب المشحون بالحب والألم والخيبة معا ليكتشف في متونه تلك الحكاية
إطلالات على القلب والوطن والذكرى
وتتضمن مجموعتها الشعرية الجديدة (أطـلّ على هـذا القلب) ثلاث نوافذ تطل منها على القلب والوطن والألم والذكرى:
1- الإطلالـــة الأولى وهي على الوطن ومدنه وناسه وصوره وأصواته وشواطئه وصباحاته وأفجاره وشموسه وطيوبه، خاصة في نصي "المنامة" و"المحرق" اللتين استهلت بهما الشاعرة المجموعة وجعلتهما تتصدرانها، إذ يكان المتلقي يسمع أصوات البحارة والمواويل واصوات الطيور، وهو يطالع حكاية الرحيل واليامال
2- الإطلالـــة الثانية تركزت حول البوح والقلوب المشتاقة والحلم والسؤال الذي يلح ولا ينتهي
3- الإطلالـــة الثالثــة تحتضن الذات وأجنحة الياسمين والورد والسفر والرحيل والحضور والغياب
فمن حيث البنية، فهذه المجموعة مصممة بإتقان هندسي، لتتحول إلى ما يشبه الرواية (سرد لحكاية الذات في علاقتها بالوطن والعشق والعمر والحزن والحلم والذكرى) بثلاثة فصول يفضي الأول إلى الثاني بالضرورة، ويفضي الثاني إلى الثالث كنتيجة، بدءا بذاكرة الوطن، ومرورا بذاكرة الجماعة، ووصولا إلى ذاكرة القلب المعنّى العاشق الذي يتغنى بربيع العمر، وببهجة الحياة التي تتكئ على النخيل الباسقات والياسمين والراجزي والشواطئ الغافيات والمآذن الصادحات الداعيات. فيتصدر الوطن مشاهد الحب الذي تتنفسه الشاعرة في كل كلمة وفي كل صورة. فتُطلُّ على الوطن الذي تحمله معها حيثما حلّت وانتقلت، سواء عبر صور المنامة والمحرق، أو عبر صور النخيل والجزر والشواطئ وأغاني البحر أو الجباه السُمر. وصولا في الإطلالة الثالثة إلى الذكرى التي تلخص قصة الإنسان في لحظات الفرح والحزن، والحضور والغياب والرحيل: قصة الأحبًّة الذين نبحث عنهم في لحظات التِّيه والذِّكرى، فلا نجدهم حولنا، إلا صورة وصمتاً يسكن القلبَ. فالإطلالات الثلاث المُصمَّمُ على أساسها الديوانُ، متداخلةٌ، يشدها إلى بعضها البعض متلازمة الحب والوطن الحاضر والماضي، العشق والرحيل الدائم، يحيطها إطار رفيع يحتضن اللوحةَ، التي هي اختصار لكينونة الذات والمكان والزمان، بكل ألوانها ومساحاتها، حتى نظن الشاعرةَ ما قصدت العشقَ والبوحَ كغرضين أساسيين للقصيدة، وإنما قصدت رسالةً إنسانية مؤداها الحب الذي يغمر هذا العالم، بدءا من الذات، ومرورا بالوطن، ووصولا إلى الإنسانية جمعاء، وهذا ما تحكيه متونُ الديوان​.