العدد 2827
الإثنين 11 يوليو 2016
banner
اعترافٌ ما تأخّر قط
الإثنين 11 يوليو 2016

أعترف الآن، بملء إرادتي، وكامل قواي العقلية، بأنني كنت أمالئ سقوط دكتاتور العراق، صدام حسين التكريتي، وكنت أنتظر اللحظة التي يثور فيها شعبه من أجل الإطاحة به، أو تأتي صاعقة إلهية تنهيه، أو تسقط السماء كسفاً عليه وعلى آل بيته خصصياً حتى لا يلدوا ظلمة آخرين من بعدهم.
لما كان صدام يستعرض في حربه مع إيران كنتُ صبياً، ومع آلة الإعلام الدائرة لم أستطع هضم هذا الذي يبحث بالقوة عن زعامة، وذات يوم صرح بأنه ما المانع من أن يكون عبدالناصر الجديد للأمة العربية ولم يرق لي أن أنضمّ إلى الدابكين لأبي عديّ، وأن أضع على صدري دبوساً يحمل صورته كما فعل أناس في تلك الفترة.
عندما رأيت طلاباً عراقيين في 1987 يخافون بعضهم، يتحدثون ويتلفتون إلى بعضهم خشية أن يكون كلامهم مفسَّراً بشكل يودي بهم إلى المهالك، وكان الوفد الطلابي العراقي يزايد على بعضه في تمثيل دور الولاء للحزب وزعيم الحزب بشكل يدعو للرثاء والشفقة عليهم أدركت كمّ الرعب الذي يعيشه الناس هناك، وهذا الارتعاد عند الحديث عن أبسط الأمور المعيشية.
تميّزت غضباً عندما اجتاح الكويت بجيوشه، سابقة ما عرف لها التاريخ شبيها، بشاعة ما خطرت على قلب أحد، تصدّع ضرب أضلاع الأمة العربية، التي ربما كانت تنتظر الفرصة لتفرّ من التزاماتها التضامنية، ووفرها لها هذا الغزو، وانقسمت الدول والشعوب، وصارت تصارح بالفوارق التي بينها، وبحقيقة نظرتها الدونية أو الاستعلائية للآخرين. مئات الكويتيين الذين اختفوا... وانتهوا، والدمار الذي حلّ بالكويت، والنهب من الأموال العامة والخاصة.
كرهته جداً، عندما عضّ بنواجذه على السلطة، مقدّما نفسه على بلاده، متدرّعاً بالكرامة الوطنية ليبقى على رأس الهرم، يعرف إن هو عاد إلى بيته مواطناً عادياً سوف يمزَّق شرّ ممزق ممن استباحهم هو وأبناؤه وعناصر حزبه، ومن الذين اغتالهم وصفّاهم لمّا استلم السلطة بعد إزاحة حسن البكر عنها، بتهم الخيانة وتهم أخرى متفرقة. كان العراق يستباح، سماؤه منتهكة، أرضه محروقة، مصانعه مستهدفة، بنيته التحتية مترصَّدة، يزداد فقراً، يزداد تمزقاً، ويدمى القلب عليه، وهو متربع على عرشه بالسيجار الكوبي الفاخر في انفصام تام عن شعبه وما يعانيه، متباكياً على مصنع حليب الأطفال.
ولما عالج “العطاس” الذي ظهر في رؤوس الأكراد في حلبجة بالكيماوي، أدركت أن الفرج سيطول، وأن ما سوّى الجثث بالأرض، قادر على أن يسوّي مثلها، مستشهداً بحركات أخرى قيل عنها ما قيل، وكان إخمادها يعني قتل المحتجين هم ومن يعزّ عليهم.
ما كان دخول بغداد، وبكائيات اجتياح عاصمة العباسيين إلا تحصيل حاصل لهزيمة صدام في 1991، وفرض شروط مذلة على بلاده وافق عليها بشرط أن يثبت حكمه الأجوف، فقبل بـ “النفط مقابل الغذاء”، والتفريط في المليارات التي أضاعها في الحروب الشخصية، بمليارات مثلها لتعويض الدول التي أضرّ بها، وإلا العراق الذي لم يجنِ إلا العوز والهوان على الدول والشعوب.
اليوم، وبعد كل هذه السنوات، إن اتفق موقفي أم اختلف مع جورج بوش الأب، وابنه، والتابع توني بلير، أو أيٍّ من كان، فالنتيجة واحدة، أن ذاك الحاكم وحزبه يجب أن يرحلا ليتركا للعراق فرجة يلج منها للقرن الحادي والعشرين من دون كل هذا الرعب والفقر والجوع وانسحاق الكرامة الوطنية والشخصية، الذي شكلها صدام حسين وجماعته، من دون النظر إلى من يكون، ولا إلى أي الأديان والمذاهب ينتمي، فما للظالمين من أنصار ولا مبررين، ولا مرجّحين للمفاسد والمظالم، ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه، وأراد أن يصطف بإرادة حرّة في صف الظلمة والجبابرة والطواغيت الذين لا يمكن المراوحة في سيرتهم، ولا يمكن الدفاع عن مواقفهم، مادامت الوسائل التي توسّلوا بها عبارة عن دماء البشر وأرواحهم وأشلائهم وأموالهم وكرامتهم وأعراضهم، وما دون ذلك ليعبّدوا طريقهم للسيطرة والحكم بالحديد والنار.
اليوم يحاول البعض ربط اعترافات توني بلير بالاعتذار لصدام حسين، ولكن أوليس لو استجاب صدام لعروض عربية وانسحب من الكويت في 1990/1991 لجنّب بلاده ويلات لا عدّ لها؟ ألم يكن في استطاعته التفكير في عرض احدى الدول في 2003 باللجوء إليها وترك العراق لأهله لو كان يفدي العراق بنفسه؟
اليوم يحاول البعض، وهي ليست المرة الأولى، أن يقولوا أعيدوا صدّام إلينا فلقد كان عهده أزهى العهود، وزمانه أبهى الأزمنة، يكفي أنه لم تكن هناك تفجيرات، ذلك لأن من أتوا بعده من عصابات الإجرام، والطائفية، والمصالح، والمحاصصة، والفساد، والميليشيات قادوا البلاد إلى المهاوي في 13 عاماً، وأزالوا مصاريع الأبواب ليجعلوها نهباً لكل المغامرين والدول ذات المصالح من كل الأنواع لتمشي في العراق مرحاً، وتسلّح، وتسيطر، وتجيّر، وقيادات الأحزاب والعشائر العراقية في شغل شاغل بالنهب والسلب والإفساد.
إن ما انتهى إليه العراق اليوم، بدأت مقدماته منذ أكثر من ثلاثة عقود، وكانت كل حلقة تقود إلى ما بعدها، حتى انتهى هذا البلد العظيم يتناهبه اللصوص، ولا يدري من أين يأتيه الموت ولا متى، ولا مِن مَن. لقد تم تأسيس تلك الدولة ليخاف كل طرف من الآخر، بينما يمسك بالخيوط فرد واحد، شعاره “إما أنا أو الفوضى”.
فالذين يرون أن العودة إلى الوراء للارتماء في أحضان الجبروت على اعتبار أن ذاك الظلم أهون من هذا الرعب، فإن لهم حظاً عظيماً من تقديس العبودية، وجعلها نبراساً لمن لا يستطيع أن يدبّر أمره في فسحة حريته، فليس له إلا أن يعود ليستظل بسيّده الذي يؤمّن له كل شيء، ما عدا حريته في التفكير، وحظه من الكرامة.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية