+A
A-

النقد الصحافي والنقد الأكاديمي... أيهما أقوى؟!

ما إن ينتهي صديق فنان من مسلسل او مسرحية، إلا ويسألني عن رأيي في العمل، وقبل أن أجيبه أسأله مازحا... أيهما تفضل النقد الأكاديمي أم النقد الصحافي؟
يضحك كعادته قائلا “أفضل النقد الصحافي لأنه أقرب إلينا نحن الفنانين”.
أعود مرة أخرى في هذا التقرير لأتناول مسألة “نقد” العمل الفني ولكن بطريقة أخرى، فالجدل لم يستقر حول ما إذا كان الناقد حجر عثرة في طريق الفنان ونباتا طفيليا يتغذى على حسابه. غير أن مسؤولية الناقد تحتم عليه الاستجابة السريعة والذكية لكل عمل فني جديد وكذلك مشاركة الفنان في مهمة تحقيق مقدرة الفن لإيصال رسالته... وإذا كان الفنانون بشرا فهم عرضة لأن يكذبوا، وأن يغشوا، وأن يخدعوا أنفسهم والآخرين بنفس الطريقة التي يسلكها سائر البشر. ونظرا لأن الناقد منفصل عن العمل الفوري للخلق فبوسعه أو لعله يستطيع أن يتغلغل في مظاهر الخداع هذه، سواء أكانت إرادية أو لاإرادية. وهكذا يصبح الناقد في النهاية نباتا طفيليا يتغذى على العناصر الحيوية التي تبدو في الأعمال الجيدة، وإنما يصبح في الغالب حامل لواء العقيدة من الفنان الطفيلي الذي يستغل أشكال الفن التجارية. وطبيعي أن يتضمن هذا التسليم بأن الناقد نفسه يسلم بالمستويات الجيدة التي تظهر في الفنانين المجيدين...
لكن لا بد أن يكون الناقد على علم بالظروف الموضوعية التي يتم فيها إنتاج العمل الفني في بلده، وكذلك على علم بتأثيرها على الفنان الخلاق...
لكن، أيهما يفضل الفنان... النقد الأكاديمي أم النقد الصحافي؟... إن الأول محدود بحدين مهمين أولهما أن العمل الفني (الدراما في مجتمعنا) حديث وفي حالة مستمرة من الجريان والنمو، ومن ثمة فسرعان ما تصبح النظرية الجديدة قديمة، وثانيهما أن الناقد الأكاديمي معزول عن الإنتاج وظروفه، مما لا يهمه كثيرا، ومن ثم ينعزل في النهاية عن المستويات الشعبية والذوق الشعبي ويتفرغ للبحث الجمالي المطلق. غير أن أفضل ناقد فني اليوم هو الذي يستطيع أن يوازن داخل نفسه بين قضيتين مهمتين... قضية تطور الفن وقضية تطور وسيلة الترفيه الشعبي. مهمة الناقد هي اكتشاف المستويات المتغيرة التي تظهر على أساسها الأعمال الدرامية الجيدة، وكذلك اكتشاف الأسباب التي تكمن وراء ظهور تلك الأعمال الجيدة... فليس من الصعب تمييز المستويات المألوفة في بعض الأعمال الضعيفة، لكن الصعوبة هي أن نعرف أين نضع بدقة الخط المميز لهذه او تلك من الأعمال الجيدة.
ومن الحقائق الغريبة للنقد الفني، أن الناس الذين يخاطبهم لا يهتمون به. فالمسلسل بشكل عام أو حتى الفيلم لا ينجح بتأثير المدح أو القدح في الصحافة بقدر ما ينجح بتأثير الدعاية والإعلان المباشرين. أما الذين يهتمون بالنقد فهم المخرجون والفنيون والمنتجون وغيرهم من العاملين في المسلسل أو الفيلم.
أما النقد الصحافي، فهو النقد الذي يتولاه محررون عاملون في الصحافة “كحالنا” أو بعض الفنانين المتخصصين الذين يستكتبون من الخارج، ويقال إن هذا النقد أقل قيمة من النقد الأكاديمي. ونظرا للمساحات المحدودة التي تخصص لهذا النوع، فإنه يتغلب عليه التعميم والإطلاق وعدم إيفاء الموضوع حقه. فقد يكتفي الناقد بالكتابة عن قصة المسلسل أو السيناريو أو الممثلين تاركا بقية العناصر أو معلقا بكلمات قليلة عنها.
حقيقة، لا بد أن نشير إليها قبل أن نقرأ آراء بعض الفنانين، وهي أن الناقد في الماضي عادة إما فيلسوفا مثل أفلاطون أو أرسطو، وإما مشتغلا بالفن أو الكتابة، يهجرها من وقت لآخر للبحث والنظر في المبادئ الجمالية لفنه، مثل ليوناردو دافنشي وكيتس وورد وغيرهم... وكانت شهرة الناقد تقتصر على عمله كناقد أكثر مما تقتصر على ما مارسه من أشكال الخلق الفني الأخرى، وعلى هذا النحو نشأت مهنة النقد في صورة الدراسات الأكاديمية للجامعات من جهة، وفي المجال المفتوح للكتابة ذاتها من جهة أخرى.
العالم اليوم يثير شكوى تكاد تكون عامة؛ مؤداها أن النقد أصبح في أكثره تافها غير خلاق بتأثير الصحافة التي هبطت بمستواه. أما نقد المخرجين المتميزين، فيعاب عليه انه للمتخصصين في الغالب، فكأن الصحافة إذن وقفت حدا للنقد، ولكن العاملين فيها ونقادها يغفلون حقيقة مهمة، وهي أن الذوق الشعبي مرن وقابل للتشكيل، بخاصة انه كلما تحسنت الظروف الاجتماعية والاقتصادية مال الذوق العام إلى الدقة...
عموما يرى بعض الفنانين أن النقد الصحافي للعمل الفني، سواء أكان أغنية، أو مسلسلا، أو مسرحا، يكون اصدق من النقد الأكاديمي المتخصص... بحكم التصاق الصحافة اليومية مع الفنان ومتابعة أخباره. فالصحافي الذي يشتغل في الصفحات الفنية، هو الذي يكون في الغالب الناقد لهذا العمل أو ذاك، ولكن ليس كل صحافي يشتغل في صفحة المنوعات يستطيع أن ينتقد عملا فنيا...
وهناك من يرى ان نصيحة الصحافي قد تكون أفضل من مواعظ ودروس الناقد، الذي سيحلل لك العمل الفني، ويرسم لك خطوط الطول والعرض، وسيبحث في كل صغيرة وكبيرة... الفنان يتقبل من الصحافي البسيط النقد البناء المبني على حب العمل، ولا يتقبل النقد التحليلي الممل من الأكاديميين.