العدد 5685
الأربعاء 08 مايو 2024
banner
صادق أحمد السماهيجي
صادق أحمد السماهيجي
"البحرين" ساحة خصبة لتجاذب التيارات الفكرية على مختلف المراحل التاريخية
السبت 28 مايو 2022

 في رواية "التبغ الكوبي" للكاتب ناجي جمعة
 

 

زمن الرواية

يرجع زمن رواية "التبغ الكوبي" للكاتب ناجي جمعة، للفترة الممتدة من 15 مارس 1985 وينتهي بإعلان جمهوريات الاتحاد السوفييتي انفصالها بشكل منفرد عنه، ومن ثم خبر تفككه في 1991م، إلى أن وصلت الرواية لمطلع عام 1992م لحظة استلام محمد البحار لشهادته الجامعية. 

ويعود زمن الرواية بشكل شمولي إلى الفترة الممتدة من منتصف الخمسينات، وصولاً لسقوط الاتحاد السوفييتي بداية التسعينات.  


مكان الرواية

جرت أحداث الرواية بشكل أساسي في بلدان ثلاثة، مملكة البحرين وأمريكا وكوبا، حيث انطلق الكاتب في روايته ابتداءً من حي الحطب بالعاصمة المنامة، وقد كان يشتهر هذا الحي في قديم الأزمان بعينين للمياه الطبيعية، "عين المجنونة" و"عين بن حديد"، وهذه إحالة تاريخية مهمة تبرز المعالم التراثية والأثرية في البحرين، إضافة للعديد من المناطق المحلية التي ذكرها الكاتب.   


الفكرة العامة للرواية

ركّزت رواية "التبغ الكوبي" في عمومها، على بيان تجاذب الصراعات الأيديولوجية في البحرين، في قالب روائي مشوق بيّن التناقضات الصارخة التي يتبناها كل من الماركسيين والرأسماليين والمسلمين، وكذلك البعثيين والقوميين، في مقاربة لا تخلو من بعض القواسم المشتركة التي إذا ما قيست، فإنها لا تعدو تبرهن أن لكل مرحلة عوامل وموازين قوى تقلب المعادلات الاجتماعية بين المواطنين والشعوب.  


تعدد أصوات الرواية

جاءت الرواية في ثلاثة اتجاهات رئيسة، حيث تعددت الأصوات في هذه الرواية بشكل أفسح المجال لجميع الشخصيات لإبراز التفاصيل الكثيرة في تبني أفكارها ومعتقداتها دون أن يتدخل الكاتب في توضيح مدى أحقية أو قوة شخصية على أخرى، فشخصية محمد البحار أخذت الاتجاه الماركسي الشيوعي، وشخصية علي رمضان تبنت الاتجاه الرأسمالي الليبرالي، وشخصية عيسى الخال تمثلت في الرجل المتدين.   

في النهاية، لم ينفع محمد نعمان البحار تبغه الكوبي الذي أراده ملجأً ومنقذاً لتبني فكرته الشيوعية التي حلم أن يسطر مجدها لنفسه ولأتباعه الآخرين يوماً ما، ولم ينفع علي رمضان اعتناق الأيديولوجية الرأسمالية والحرية المطلقة التي صار ضحيتها أخيراً هو وابنه سامح، فيما كان خط الرواية يعطي استنتاجاً للقاريء بعد استعراض نظريات وتجارب ومآلات التيارات، ليقول بأن منهج الإسلام يتسم بشمولية في التعاطي مع أمور الحياة، وذلك على لسان عيسى الخال في الرواية.  

 

الشيوعية .. زيجات ومآلات 

محمد البحار، تشرّب الشيوعية من أبيه نعمان، أحبّ محمد، الإسلامية المتحجبة ريم الجندي عندما رآها في دكانة أبيه الذي يبيع فيها، لم يستطع أن يتزوجها بعد أن عُرف عنه خطه الشيوعي، بدأت علاقته بها بسؤال "فكيف أكوّن علاقة أنا التقدمي بفتاة رجعية محافظة تؤمن بالتراث الديني"، وانتهى حبهما بقولها "أرجو أن تمسح اسمي من ذاكرة عقلك الماركسي". 

في المقابل، يقوم عبدالإله التوبلاني وهو الإسلامي المتدين، بالاستئثار لرأيه على حساب رأي عائلته والزواج من أخت صديقه فارس، أخيراً، طلّق عبدالإله زوجته نتيجة انفتاحها غير المسؤول.  


الرأسمالية .. هلاك وابتلاءات

علي رمضان، الذي كان يؤمن بالحرية المطلقة يوماً ما، لم يستطع هو وزوجته ضبط ابنهما سامح الذي راح يهوي في مستنقع الشذوذ والمثلية.  

ولم يستطع علي أن يوقف بركان التحرر الذي سقط في قاعه جراء ابتلائه بداء الرأسمالية ثم تجارة المخدرات، والذي تسبب في وقوع ابنه سامح فيها حتى وافته المنية.  


الإسلام .. شمولية وقدوات 

عيسى الخال، طالب حوزوي متدين، يدافع عن رؤيته الإسلامية من خلال أحداث ووقائع الرواية، ويتسم بالاعتدال في الرد على التوجهات المختلفة، فقد كان الخال متسامحاً مع البحار أثناء لقائه به بعد القبض عليه. 

إن هذه المفارقات والاختلافات تحسب للكاتب بالطبع، فهي تعطي قوة ومسارات متعددة، في توظيف أحداث الرواية وتوضيح أوجه الصراعات الفكرية القائمة في تلك الفترة في البحرين، أب شيوعي من جيل قديم يقترن بزوجة من عائلة محافظة، وابنه الشيوعي من الجيل المتقدم ترفضه الملتزمة، وآخر متدين يقترن بشيوعية، ورأسمالي يضيع في متاهة الحريات، وإسلامي يقاوم التيارات يتسامح تارة ويقوّي قبضته تارة بهدف الحفاظ على مباديء اتجاهه. 

 


تميز في الجانب البوليسي

أعجبني الكاتب، حين أفرد ستة مشاهد من الرواية "34 – 29 " كسر فيها مسار الجانب الأدبي الذي تنتهجه الرواية، إلى مسار بوليسي أظهر فيه براعته الخيالية في تصوير حادثة الشجار والقتل التي تسبب فيها نعمان، بحق زوجته عندما تناول صخرة وضربها على مؤخرة رأسها وفارقت الحياة.   

وتأتي الأحداث بوتيرة متسارعة، وفي تصاعد درامي رهيب، ابتداءً من اكتشاف الجثة من جانب أحد ربان القوارب بفرضة المنامة، والتحقيق والاستعانة بالطب الشرعي والكلاب البوليسية، والغواصين.   

وانتهاءً، ببراعة المحقق خالد القرش الذي ابتدع خطته في زمن لم تتوافر فيه كاميرات المراقبة، بأن قام بتصوير مقطع فيديو يجسد الجريمة ليعرضه على نعمان الذي انتهى به الحال للاعتراف، ومطابقة ذلك مع نتيجة البصمات واكتمال الأدلة.    


قضايا مهمة ومعاصرة

وتطرق الكاتب في روايته "التبغ الكوبي" العديد من القضايا المهمة والمعاصرة، تناولها بسلاسة واقتدار، مثل حقوق المرأة، والمثلية، وطلاق المعلقات، وموضوع جماعة السفارة التي ادعت رؤية المخلّص، كما لم يفُت الكاتب، ذكر حادثة اغتيال رجل الدين السياسي عبدالله المدني التي فعلها الماركسيون في العام 1976م.  


لغة انسيابية وعبارات بديعة

استطاع الكاتب أن يشبك خطوط الرواية بلغة جميلة وانسيابية، ازدانت ببديع العبارات والألفاظ فيقول "يتعاطاها كالهيروين ثم يركنها في قناني دماغه" ويقول "تبادله الولع بالخلو من قلبه حتى استحوذت عليه"، وفي موضع آخر "لم يستطع كبت مشاعره، شقت دموع عينيه جدولاً على خده". 
ومن جمالية لغة الكاتب، استخدام أداة التشبيه بواسطة حرف الكاف في الصفحة 138 عندما قال "عنق كإبريق، نحيف كخصر …".

إن من يقرأ الرواية، يجد الوفرة في نوعية وكمية المعلومات التي تشبع القاريء على نحو ما حول التيارات الفكرية التي تناولها الكاتب بشكل مستفيض ووافٍ، ليقدم أنموذجاً لرواية موجزة ومكثفة غطت أحداث وتفاصيل فترة زمنية مهمة من تاريخ البحرين. 

واستطاع الكاتب، أن يقدم مسلسلاً من الأحداث المترابطة وبشكل علمي وتحليلي رصين، متناولاً جميع التيارات بوتيرة متساوية في النهج وبأسلوب متنوع، مرة عن طريق الحوارات المتبادلة، ومرة عن طريق تقديم سرد تاريخي محكم، ومرة عن طريق التجربة وملامسة النتائج.  

 


خلاصة واستنتاج

بصريح العبارة، هل أراد الكاتب من خلال صفحات هذه الرواية أن يقلب الطاولة على الشيوعية وغيرها من الاتجاهات الرأسمالية والبعثية والقومية، ليبين على أقل تقدير، بأن "كل النظريات الوضعية لا يمكن تطبيقها بكل حذافيرها" كما جاء ذلك على لسان فارس.  

ربما يكون الجواب هذه المرة، على لسان يوسف الدرازي"جميع الأيديولوجيات سواء كانت دينية أو غير دينية ينضوي تحتها المتعصبون والمنصفون، ما يهمنا هو التعايش معهم". ص 115

وبالرغم من أن الرواية جاءت في 224 صفحة من الحجم المتوسط، إلا أنها ثرية ومكثفة في تفاصيلهاً وخطوطها ومساراتها المتنوعة، وقد اجتهد الكاتب في إصدار هذا المنتج الثقافي ليعطي وجبة دسمة لحقبة تاريخية مهمة في مملكة البحرين، واستطاع أن يبين أوجه الاختلافات بما يعطي صورة حقيقية توضح العمق الثقافي في تركيبة المجتمع البحريني.

هذا الموضوع من مدونات القراء
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected]
صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية