العدد 6090
الثلاثاء 17 يونيو 2025
banner
الحضارة بوصفها أثرا مشتركا
الثلاثاء 17 يونيو 2025

اللَّـه عطانا خير وأنعام
والحمد له واجِب علينا
ياللي عطانا إيمان وإلهام
ومن فضله الضافي عطينا

تردد هذان البيتان البليغان في ذاكرتي بينما يحتفل العالم باليوم الدولي للحوار بين الحضارات منذ أيام.
بهذين البيتين، يضع الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان -طيّب الله ثراه- لبنة أخلاقية في بناء المفهوم الحضاري الذي طالما آمن به، وجسّده في مشروعه الوحدوي والإنساني. البيتان لا يحتفيان بالعطاء من باب الامتنان الفردي فقط، بل يضعان منظومة معرفية متكاملة قوامها: الإيمان، والإلهام، والعطاء. وهي منظومة تنسحب على تعريف الحضارة حين نعيد تأمّلها لا بوصفها سلعةً مادية أو إنجازاً عمرانيّاً، بل كرؤية أخلاقية تُنتج المعرفة وتبني القيم وتنفتح على الآخر.

ما الذي يجعل من حضارة ما علامة مضيئة في تاريخ البشرية؟
ليس التوسع الإمبراطوري، ولا الوفرة الاقتصادية، بل قدرتها على إنتاج الخير العام، وتوزيع المعرفة، وتوليد الحوار. الحضارة ليست تراكُماً في الحجم، بل تحوّلٌ في النوع، ومتى افتقدت القدرة على مخاطبة الآخر، فإنها تحكم على ذاتها بالتقوقع، ولو بلغت ما بلغت من التقنية.
لقد بدت هذه الفكرة حاضرة بقوة في فلسفة التأسيس التي قامت عليها دولة الإمارات، وهي دولة لم تنشأ على ردود الفعل، بل على فعل التراكم البنّاء، حيث غدا الحوار مبدأ وجوديّاً، وممارسة يومية، وأداة لبناء علاقات لا تستثني أحداً من قوس الانتماء الإنساني.
مَن يقرأ في العمق، يدرك أن السياسات الثقافية في الإمارات تعمل على جعل التعدد منطلَقاً للحوار، لا مدعاة للفرز أو الإقصاء. ثمة تأكيد مستمر على أن الحوار لا يُصطنع، بل يُمارس؛ ولا يُستخدم ظرفياً، بل يُؤسس له بوصفه شرطاً للحضارة.
في هذا السياق، الحوار ليس فعلاً ناعماً فحسب، بل ضرورة حضارية صلبة. إنه آلية لدرء العنف، ومواجهة التعصب، وإعادة تعريف الإنسان في علاقته بالآخر. وهو أيضاً أحد أكثر أشكال القوة نعومة وتأثيراً. لا عجب أن الحضارات التي ازدهرت كانت تلك التي فتحت نوافذها للتنوع، وتفاعلت مع الثقافات دون أن تفقد جذورها.
تأمُّل تجربة الترجمة، على سبيل المثال، يُفضي إلى اكتشاف العلاقة الوثيقة بين الحوار والنقل المعرفي؛ إذ إن كل نصٍّ مُتَرجَم هو شكل من أشكال الإنصات إلى الآخر، وكل مشروع ترجمة كبير هو تعبير عن رغبة في بناء لغة مشتركة لا تنفي الاختلاف بل تنظّمه. ومشروع “كلمة” للترجمة الذي يديره مركز أبوظبي للغة العربية هو واحد من أبرز تجليات هذا النهج الإماراتي في صناعة الجسور لا الجدران.
كما أن المعارض الدولية للكتاب التي تنظمها الإمارات، وفي مقدمتها معرض أبوظبي الدولي للكتاب الذي استضاف أكثر من مائة دولة؛ لا تهدف إلى التسويق الثقافي فحسب، بل إلى ترسيخ فكرة أن التنوع مصدر إثراء. ففي كل منصة نقاش، وفي كل ركن عرض، وورشة، ومؤتمر، تُعاد صياغة الحوار كقيمة مدنية عليا.
الحوار الحضاري، إذًا، ليس مجرد استجابة أخلاقية، بل تعبير عن وعي استراتيجي بضرورة بناء المشترك الإنساني، لا سيما في عالم تزداد فيه النزعات الانعزالية. من هنا، يمكن فهم حضور الإمارات في المحافل الدولية كصوت متّزِن يدعو إلى العقل والتسامح، ويرى أن السلام ليس وقف إطلاق نار، بل إطلاق لفكر جديد يرى في الإنسان قيمة مطلقة.
لقد نجحت الإمارات، منذ تأسيسها، في أن تشيّد لحضارةٍ قوامُها هذا الثلاثي: العمل، العطاء، الحوار. والعمل هنا ليس مجرد حركة إنتاج، بل هو التزام بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الآخر. والعطاء ليس إحساناً، بل بناءٌ مستمرٌّ للثقة. أما الحوار فهو الصيغة الأعلى لفهم الذات من خلال الآخر، وهو شرط لنقل الأثر الحضاري إلى الإنسانية جمعاء.
في ضوء ذلك، فإن الاحتفاء بالحوار بين الحضارات لا ينبغي أن يكون مناسبة احتفالية، بل وعياً متجدداً بأن مصير الإنسان مرتهن بقدرته على الإصغاء والتفاهم والانفتاح. والمجتمعات التي تفهم ذلك، لا تتقدم فقط، بل تترك أثرها في الزمن.
وبينما تَجهَد بعض الدول في بناء الهيبة عبر القوّة، تبني الإمارات حضورها عبر التأثير. تأثيرٌ يستند إلى نموذج إنساني يرى أن احترام التعدد مقدمة لبناء الحضارة، لا تهديداً لها. وهذا ما يجعل تجربة الإمارات اليوم ليست مجرد نموذج سياسي ناجح، بل رؤية حضارية تقترح على العالم شكلاً جديداً من العيش المشترك، لا يلغي الاختلاف، بل يحتفي به ويحوّله إلى مصدر معرفة.
في النهاية، لا يُقاس الحضور الحضاري إلا بقدرة الإنسان على أن يكون رسول خير، وصوت سلام، وأداة وصل في زمن التنافر. والحضارة، في جوهرها، ليست ما نملكه، بل ما نهبه للعالم من أثر نبيل. 

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .