لماذا علاقة المثقف بالسلطة في العالم العربي لا تخرج عن احتواء أو عداء؟ يتحول فيهما المثقف بموجب الأولى إلى حارس مرمى (مع مراعاة فروق التشبيه)، وفي الثانية إلى اعتلاء منصة التهميش أو الالتحاق بصفوف الضالين.. ألا توجد مساحة أخرى ما بين الاحتواء والعداء، تجعل من المثقف مرشدًا ومنيرًا فاعلًا وضميرًا حيًّا وقوة اقتراح، لا يخشى في قول كلمة الحق لومة لائم؟
لقد بينت تجارب التاريخ القديم والحديث أن المثقف لن يكون في موقع المنير، إلا إذا كان “مستقلًّا” ليس بمعنى العزلة أو الجلوس على الربوة، بل بمعنى الاستقلال عن الطمع والهوى، والانحياز للحق، حق امتلاك القدرة على ممارسة النقد في موقع النقد والثناء في موقع الثناء. المثقف لا يكون مؤثرًا إلا إذا كان مستقلًّا (عن كل شيء، إلا عن ضميره ووعيه). ولن يكون مستقلًّا إلا إذا كان حرًّا مستور الحال مقضي الحاجة، لا تضطره الفاقة والعوز إلى إراقة ماء الوجه بالتكفف الفاضح والوقوف عند الأبواب، وبيع النفس والعقل والروح، ولذلك تنبهت القوى العقلانية المستنيرة على مدار التاريخ إلى هذه الحقيقة، فأعطت للمثقف: المفكر والمبدع، كل ما يكون به مستقلًّا حرًّا - تمامًا مثل القاضي - لتستثمر فيه العلم والحكمة، بدلًا من أن يكون مجرد مزين لها أو منافق، لأنها تعلم علم اليقين أن المثقف إذا أصبح مسلوب الإرادة، تروضه المطامع، وتراوده على نفسه الأمارة بالسوء، صار تابعًا، يلحقه ما يلحق المتبوع من انتكاسات وعداوات، طالما أنه يتماهى معه ويزين له كل شيء بلا حدود أو قيود.
لذلك، وعندما يفقد المثقف استقلال فكره وحرية إبداعه، يفقد مصداقيته وفاعليته. ولا تعود هناك أية حاجة له في الأصل، لأنه يصبح عاريًا عن كل حقيقة، وأوراقه مكشوفة، يناور ويساوم، علّه يظفر بما يؤثث به عزلته، ويؤمن به شيخوخته، فمثل هؤلاء - إذا ما وضعوا في مثل هذا الموضع - لا يحرسون – في الغالب - سوى مصالحهم، فهي المنطلق والمنتهى، والسائل والمسؤول، ولله عواقب الأمور.